﴿فَإِنْ تَوَلَّوْا﴾ وأعرضوا عن حكمك بما نزل ﴿فَاعْلَمْ أَنَّما يُرِيدُ اللهُ﴾ تعالى بخذلانهم وتولّيهم عن حكمك ﴿أَنْ يُصِيبَهُمْ﴾ ويعاقبهم في الدّنيا ﴿بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ﴾ الكثيرة ، وقليل من معاصيهم التي لا تحصى ؛ من تسليطك عليهم وتعذيبهم بالقتل والإجلاء ، والذلّة والمسكنة ، وضرب الجزية ، ويعاقبهم على بقيّتها في الآخرة.
ثمّ سلّى سبحانه قلب حبيبه صلىاللهعليهوآله بقوله : ﴿وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ لَفاسِقُونَ﴾ وقليل منهم مؤمنون شاكرون ، فلا يعظم عليك تولّيهم عن حكمهم.
﴿أَفَحُكْمَ الْجاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (٥٠)﴾
ثمّ أنكر سبحانه عليهم التّولّي عن الحقّ ، ووبّخهم عليه بقوله : ﴿أَ﴾ يتولّون ﴿فَحُكْمَ الْجاهِلِيَّةِ﴾ وملّتها التي هي محض الهوى والجهالة ﴿يَبْغُونَ﴾ ويطلبون ؛ مع أنّهم أهل الكتاب والعلم.
ثمّ أنكر كون حكم أحسن وأصلح من حكمه بقوله : ﴿وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللهِ﴾ وأعدل ﴿حُكْماً﴾ ثمّ نبّه على أنّ هذا الخطاب والاستفهام الإنكاري أو التعجبي (١) يكون ﴿لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ﴾ بحكمة الله وعدله ؛ لأنّهم العارفون بأن لا أحد أعدل من الله ، ولا حكم أحسن من حكمه ، لا اليهود الّذين هم أهل الشّكّ والرّيب والعناد.
روي أنّه كان بين النّضير وقريظة دم قبل أن يبعث الله محمّدا صلىاللهعليهوآله ، فلمّا بعث تحاكموا إليه فقالت قريظة : بنو النّضير إخواننا ، أبونا واحد ، وديننا واحد ، وكتابنا واحد ، فإن قتل بنو النّضير منّا قتيلا أعطونا سبعين وسقا (٢) من تمر ، وإن قتلنا منهم واحدا أخذوا منّا مائة وأربعين وسقا من تمر ، واروش جناياتنا (٣) على النّصف من اروش جناياتهم (٤) ، فاقض بيننا وبينهم ، فقال صلىاللهعليهوآله : « فإنّي أحكم أن دم القرظيّ وفاء من دم النّضيري ، ودم النّضيري وفاء من دم القرظيّ ، ليس لأحدهما فضل على الآخر في دم ، ولا عقل (٥) ، ولا جراحة » . فغضب بنو النّضير وقالوا : لا نرضى بحكمك فإنّك عدوّ لنا ، فأنزل الله هذه الآية ﴿أَفَحُكْمَ الْجاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ﴾ يعني : حكمهم الأوّل (٦) .
وقيل : إنّهم كانوا إذا وجب الحكم على ضعفائهم ألزموهم إيّاه ، وإذا وجب على أقويائهم لم
__________________
(١) في النسخة : التعجيبي.
(٢) الوسق : مكيال ، وهو ستون صاعا ، والصاع خمسة أرطال وثلث.
(٣) في تفسير الرازي : جراحاتنا ، والاروش جمع أرش : دية الجراحة.
(٤) في تفسير الرازي : جراحاتهم.
(٥) العقل : الدّية.
(٦) تفسير الرازي ١٢ : ١٥.