البالغة ﴿لَجَعَلَكُمْ﴾ من أوّل الدّنيا إلى فنائها ﴿أُمَّةً واحِدَةً﴾ وأهل ملّة فاردة ﴿وَلكِنْ﴾ لم يشأ ذلك ، بل جعل أديانكم مختلفة بعضها ناسخ لبعض ﴿لِيَبْلُوَكُمْ﴾ ويمتحنكم ﴿فِي ما آتاكُمْ﴾ من الدّين والأحكام ، هل تعملون بها منقادين لله ، خاضعين لأحكامه ، مصدّقين بالحكمة في اختلافها ، أو تقصّرون من العمل ، وتتّبعون الشّبهات والشّهوات ؟
فإن آمنتم بأنّ دين الإسلام حقّ ، وما في القرآن - سواء كان موافقا للكتابين أو مخالفا لهما - أحكام الله وشرائعه ﴿فَاسْتَبِقُوا﴾ أيّتها (١) الفرق ﴿الْخَيْراتِ﴾ التي هداكم الله إليها من العقائد الحقّة ، والأعمال الصّالحة ، وبادروا إليها انتهازا للفرصة كي لا تموتوا مع فساد العقائد ، وسوء الأعمال ، فإنّه يكون ﴿إِلَى اللهِ﴾ بعد الموت ﴿مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً﴾ أيّها المؤمنون بالقرآن ، والمنكرون له ﴿فَيُنَبِّئُكُمْ﴾ الله ، ويخبركم إذن ﴿بِما كُنْتُمْ﴾ في الدّنيا ﴿فِيهِ تَخْتَلِفُونَ﴾ من كون القرآن كتاب الله وأحكامه ، وإخباره تعالى بإثابة المؤمن به ، وعقاب الجاحد له ؛ فلا يبقى شكّ للمبطل والمحقّ.
﴿وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ
بَعْضِ ما أَنْزَلَ اللهُ إِلَيْكَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّما يُرِيدُ اللهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ
ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ لَفاسِقُونَ (٤٩)﴾
ثمّ أكّد الله وجوب الحكم بما أنزل اهتماما به بقوله : ﴿وَأَنِ احْكُمْ﴾ - قيل : إنّ التّقدير : وأنزلنا إليك أن أحكم (٢) ، أو أنزلنا إليك الكتاب بالحقّ وبأن احكم ، فيكون عطفا على الحقّ ، أو أمرناك أن احكم (٣) - ﴿بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ﴾ إليك.
روي عن الباقر عليهالسلام : « إنّما كرّر الأمر بالحكم بينهم ؛ لأنّهما حكمان أمر بهما جميعا ، لأنّهم احتكموا إليه في زنا المحصن ، ثمّ احتكموا إليه في قتل كان بينهم » (٤) .
أقول : عليه بعض مفسّري العامّة (٥) .
ثمّ لمّا كان الحاكم في معرض اتّباع هوى المتخاصمين ، بالغ سبحانه في النّهي عنه بقوله : ﴿وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ﴾ ولا تراع ميولهم.
ثمّ نبّه الله تعالى نبيّه صلىاللهعليهوآله بسوء (٦) قصد اليهود ، وإرادتهم تحريفه عن الحكم بالحقّ بقوله : ﴿وَاحْذَرْهُمْ﴾ من ﴿أَنْ يَفْتِنُوكَ﴾ ويصرفوك بخديعتهم ﴿عَنْ بَعْضِ ما أَنْزَلَ اللهُ إِلَيْكَ﴾ من الأحكام
__________________
(١) في النسخة : أيها.
(٢) تفسير الرازي ١٢ : ١٣.
(٣) تفسير الرازي ١٢ : ١٤ ، تفسير البيضاوي ١ : ٢٦٩.
(٤) مجمع البيان ٣ : ٣١٥ ، تفسير الصافي ٢ : ٤١.
(٥) راجع : تفسير الرازي ١٢ : ١٤.
(٦) كذا ، والظاهر : على سوء.