ثمّ بالغ سبحانه فى بيان شدّة لجاجهم وطغيانهم بقوله : ﴿وَرَفَعْنا فَوْقَهُمُ الطُّورَ بِمِيثاقِهِمْ وَقُلْنا لَهُمُ ادْخُلُوا الْبابَ سُجَّداً﴾ - وقد مرّ تفسير القضيّتين في سورة البقرة (١) - ﴿وَقُلْنا لَهُمُ﴾ بلسان نبيّهم ﴿لا تَعْدُوا﴾ ولا تتجاوزوا حدود الله ﴿فِي﴾ يوم ﴿السَّبْتِ﴾ باصطياد الحيتان ﴿وَأَخَذْنا مِنْهُمْ﴾ على العمل بأحكام التّوراة عموما ، أو ترك الصّيد في السّبت ﴿مِيثاقاً﴾ وعهدا ﴿غَلِيظاً﴾ وكيدا.
﴿فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ وَكُفْرِهِمْ بِآياتِ اللهِ وَقَتْلِهِمُ الْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَقَوْلِهِمْ
قُلُوبُنا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللهُ عَلَيْها بِكُفْرِهِمْ فَلا يُؤْمِنُونَ إِلاَّ قَلِيلاً (١٥٥)﴾
ثمّ نقضوا الميثاق ، وخالفوا التّوراة ، واصطادوا في السّبت ﴿فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ﴾ وبسبب خلفهم عهدهم ﴿وَكُفْرِهِمْ بِآياتِ اللهِ﴾ وحججه الظّاهرة من القرآن ، أو جميع المعجزات ، أو خصوص آيات التّوراة الدّالّة على صفات النبيّ ﴿وَقَتْلِهِمُ الْأَنْبِياءَ﴾ كزكريّا ويحيى ﴿بِغَيْرِ حَقٍ﴾ مع ظهور نبوتهم لهم ﴿وَقَوْلِهِمْ﴾ في مقام اللّجاج جوابا لمحمّد صلىاللهعليهوآله : ﴿قُلُوبُنا غُلْفٌ﴾ ومغشّاة ، أو أوعية العلم ، ومع ذلك لا خير فيها من نبوّتك.
ثمّ ردّهم الله بقوله : ﴿بَلْ طَبَعَ اللهُ﴾ وختم ﴿عَلَيْها بِكُفْرِهِمْ﴾ وجحودهم ، فحجبت عن العلم خذلانا من الله ، وقست بحيث لا تؤثّر فيها الدّعوة والموعظة ، ولذا ﴿فَلا يُؤْمِنُونَ﴾ بالأنبياء ﴿إِلَّا قَلِيلاً﴾ منهم كموسى وعزيرا ، أو إيمانا قليلا لا يعبأ به.
قيل : إنّ التّقدير : أنه بسبب هذه المعاصي لعنّاهم وجعلنا قلوبهم قاسية.
﴿وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلى مَرْيَمَ بُهْتاناً عَظِيماً (١٥٦)﴾
﴿وَ﴾ كذا ﴿بِكُفْرِهِمْ﴾ وإنكارهم قدرة الله على خلق الولد بغير أب ﴿وَقَوْلِهِمْ عَلى مَرْيَمَ﴾ بنت عمران ﴿بُهْتاناً عَظِيماً﴾ وفرية في غاية القباحة من نسبة احتبالها إلى الزّنا ، مع أنّ الله تقبّلها بقبول حسن لخدمة البيت المقدّس ، وكفّلها زكريّا ، وشهد بطهارتها ، وتكلّم عيسى في المهد ، إلى غير ذلك من الأدلّة القاطعة عند اليهود على أنّ هذا القول في حقّها بهت صرف.
في نقل بهتان الفخر الرازي على الشيعة وتكذيبه
قال الفخر الرازي ، بعد ذكر براءة مريم من كلّ ريبة : فلا جرم وصف الله تعالى طعن اليهود فيها بأنّه بهتان عظيم ، وكذلك وصف طعن المنافقين في عائشة بأنّه بهتان عظيم ، حيث قال : ﴿سُبْحانَكَ هذا بُهْتانٌ عَظِيمٌ﴾(٢) وذلك يدلّ على أنّ الرّوافض
__________________
(١) تقدم في تفسير الآيتين (٦٣ و٩٣) من سورة البقرة.
(٢) النور : ٢٤ / ١٦.