أَضَلَّ اللهُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً (٨٨)﴾
ثمّ أنّه تعالى بعد إرعاب النّاس بعظمته وقدرته ، وبعثهم إلى يوم الجزاء ، ونفي الرّيب فيه ، ردع المؤمنين عن موادّة المنافقين ، وعن الرّيب في كفرهم ، بقوله : ﴿فَما لَكُمْ﴾ اختلفتم ﴿فِي﴾ كفر ﴿الْمُنافِقِينَ﴾ بعد ظهوره ، وتفرّقتم فيه ﴿فِئَتَيْنِ﴾ وفرقتين.
عن ابن عبّاس رضى الله عنه : أنّها نزلت في قوم أظهروا الإسلام بمكّة ، وكانوا يعينون المشركين على المسلمين ، فاختلف المسلمون في كفرهم وإسلامهم وتشاجروا فيه (١) .
وعن عكرمة : أنّها نزلت في قوم ضلّوا ، وأخذوا أموال المسلمين وانطلقوا بها إلى اليمامة ، فاختلف المسلمون فيهم (٢) .
وقيل : إنّها نزلت في قوم قدموا إلى النبيّ صلىاللهعليهوآله مسلمين ، فأقاموا بالمدينة ما شاء الله ، ثمّ قالوا : يا رسول الله ، نريد أن نخرج إلى الصّحراء ، فأذن لنا فيه ، فأذن لهم ، فلمّا خرجوا لم يزالوا يرحلون مرحلة مرحلة حتّى لحقوا بالمشركين ، فتكلّم المؤمنون فيهم فقال بعضهم : لو كانوا مسلمين مثلنا لبقوا معنا وصبروا كما صبرنا ، وقال قوم : هم مسلمون ، وليس لنا أن ننسبهم إلى الكفر حتّى يظهر لنا أمرهم (٣) .
فبيّن الله تعالى نفاقهم بقوله : ﴿وَاللهُ أَرْكَسَهُمْ﴾ وردّهم إلى أحكام الكفر ، من الذّل والصّغار ، والقتل والسّبي ﴿بِما كَسَبُوا﴾ من إظهار الارتداد.
ثمّ لمّا كان المؤمنون يتمنّون إيمان المنافقين ويحتالون فيه ، قطع الله طمعهم في إيمانهم ، بقوله :
﴿أَ تُرِيدُونَ أَنْ تَهْدُوا﴾ إلى الحقّ وطريق الجنّة ﴿مَنْ أَضَلَّ اللهُ﴾ وخذله ﴿وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ﴾ عن الهدى ، وخذله ﴿فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً﴾ إلى الإيمان ، وطريقا إلى الجنان.
﴿وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَما كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَواءً فَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِياءَ حَتَّى
يُهاجِرُوا فِي سَبِيلِ اللهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَلا
تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً (٨٩)﴾
ثمّ بالغ سبحانه في صرف قلوب المؤمنين عن موالاتهم بقوله : ﴿وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ﴾ وتمنّوا أن ترتدّوا إلى الكفر ﴿كَما كَفَرُوا﴾ وارتدّوا عن الإسلام ﴿فَتَكُونُونَ﴾ أنتم وهم ﴿سَواءً﴾ في الكفر ، فلمّا علمتم أنّهم طالبون هلاككم الأبدي ﴿فَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ﴾ لأنفسكم ﴿أَوْلِياءَ﴾ ولا ترضوا بهم لكم
__________________
(١) تفسير الرازي ١٠ : ٢١٨.
(٢) تفسير الرازي ١٠ : ٢١٩.
(٣) تفسير الرازي ١٠ : ٢١٨.