ثمّ بيّن سبحانه أنّ هذين الفرضين أيضا كسائر الفروض ، يكونان في التّركة ﴿مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصى بِها أَوْ دَيْنٍ﴾ حال كون الموصي ﴿غَيْرَ مُضَارٍّ﴾ لورثته بوصيّة زائدة على الثّلث ، أو بالإقرار بالدّين كذبا لإيصال النّفع إلى المقرّ له وتنقيص حقّ الورثة.
ثمّ أكّد سبحانه وجوب توريث الأزواج والكلالة على النّحو المذكور ، بقوله : ﴿وَصِيَّةٍ﴾ كائنة ﴿مِنَ اللهِ﴾ قيل : إنّ التّقدير : يوصيكم الله بتوريث هؤلاء الأقارب وصيّة لا يجوز تغييرها.
ويمكن أن يكون المراد : تلقّوا أيّها النّاس هذه الأحكام بعنوان كونها وصيّة أكيدة من الله إليكم ، فمن بدّلها فإنّما إثمه على الّذين يبدّلونه.
قيل : إنّه تعالى ختم آية إرث الوالدين والأولاد بقوله : ﴿فَرِيضَةً مِنَ اللهِ﴾(١) ، وهذه الآية بقوله : ﴿وَصِيَّةً مِنَ اللهِ﴾ للدلالة على أنّ رعاية الوالدين والأولاد أهمّ وأولى من رعاية غيرهم ، لأنّ لفظ الفرض أقوى وآكد من لفظ الوصيّة (٢) .
ويمكن أن تكون النّكتة أنّ توريث الأبوين والأولاد لمّا كان موافقا لطباعهم شدّد عليهم في الحكم ، بخلاف توريث الزّوجات والأباعد فإنّه كان مخالفا لطباعهم فأكّده بما فيه تطييب لقلوبهم واستمالة لخاطرهم أوّلا ثمّ أردفه بالتّهديد على المخالفة ، بقوله : ﴿وَاللهُ عَلِيمٌ﴾ بأعمالكم ﴿حَلِيمٌ﴾ على من خالفه وعصاه ، لا يعاجله بالعقوبة.
﴿تِلْكَ حُدُودُ اللهِ وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ
خالِدِينَ فِيها وَذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (١٣)﴾
ثمّ بالغ سبحانه في التّأكيد في العمل بجميع الأحكام السّابقة ، بقوله : ﴿تِلْكَ﴾ الأحكام المذكورة المفصّلة ﴿حُدُودُ اللهِ﴾ التي حدّها ، فلا يرضى بالتّجاوز عنها ، والقوانين التي قنّنها ، فلا يجوز مخالفتها.
ثمّ رغّب في إطاعة جميع أحكامه بالوعد بالثّواب الجزيل عليها ، بقوله : ﴿وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ﴾ وامتثل أوامرهما ونواهيهما التي منها ما فصّله في السّورة المباركة ﴿يُدْخِلْهُ﴾ الله في الآخرة برحمته وفضله ﴿جَنَّاتٍ﴾ وبساتين ذوات أشجار ملتفّة ﴿تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ﴾ الكثيرة ، حال كونهم ﴿خالِدِينَ﴾ مقيمين ﴿فِيها﴾ أبدا ﴿وَذلِكَ﴾ الثّواب هو ﴿الْفَوْزُ الْعَظِيمُ﴾ والظّفر الأتمّ بأعلى المقاصد ، والنّجاح الكامل بأسنى المطالب.
__________________
(١) النساء : ٤ / ١١.
(٢) تفسير الرازي ٩ : ٢٢٦.