الخيرات والحسنات ، فيلزمه عقله بفعلها ، ويزجره عن أضدادها من الشّرور والقبائح ، فيتقرّب إلى كلّ خير ويلتزم به ، ويتباعد عن كلّ سوء ويجتنب عنه.
فإذا نظر الملك المرشد والمعلّم للحقائق إلى هذا القلب - المعبّر عنه بالنّفس النّاطقة - ووجده طيّبا بجوهره ، طاهرا بتقواه ، نقيّا من خواطر السّوء ، مستنيرا بضياء العقل ، أفاض عليه أنوار المعرفة والحكمة والهدى ، وأيّده بجنود لا ترى ، وأرشده إلى خيرات اخرى ، وسدّده بإلهامات تترى فيشرق في تلك اللّطيفة (١) الرّبانيّة حينا بعد حين نور على نور ، من مشكاة نور الأنوار ، حتّى لا يبقى فيه من ظلمة الشّرك شيء ، ولو كان أخفى من دبيب النّملة السّوداء ، في اللّيلة الظّلماء ، على الصّخرة الصّماء ، فلا يؤثّر فيه شيء من مكائد الشّيطان ودسائسه ، ولا يلتفت إلى حيله ومكائده ، بل يتوجّه بشراشره (٢) إلى ربّه ، ويستغرق بكلّه في ذكره.
وهذا هو معنى الفلاح الحقيقي في الدّنيا المستعقب للفلاح الأبدي في الآخرة من الرّحمة والرّضوان ، والنّعم الدّائمة الباقية في الجنان ، ومرافقة الأنبياء والشّهداء ، ومصاحبة الأولياء والصّلحاء ، كما قال سبحانه وتعالى : ﴿يا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ* ارْجِعِي إِلى رَبِّكِ راضِيَةً مَرْضِيَّةً* فَادْخُلِي فِي عِبادِي* وَادْخُلِي جَنَّتِي﴾(٣) .
وإنّما قال سبحانه : ﴿لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾ ولم يقل : كي تكونوا مفلحين ، إشعارا بأنّ الإنسان ما دام فيه الرّوح ، ويكون في عالم الطّبيعة ، من قبل النّفس الأمّارة ، وشياطين الإنس والجنّ ، في خطر عظيم وإن كان من المخلصين ، فإذا فارق الدّنيا مقالا من الزّلّات ، سليما من الهفوات (٤) بتأييد الله وتوفيقه ، حتم له الفلاح وأتقن (٥) به ، كما قال سبحانه : ﴿قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ﴾(٦) .
فعلى العبد المؤمن أن يكون خائفا من مكائد الشّياطين المغوية وغلبة الهوى المردية ، في جميع حالاته وآنات عمره ، ويستعيذ بالله السّميع العليم من شرّ أعدى عدوّه ، ويلتجئ إلى ربّه ، ويتضرّع إليه أن يحفظه من الضّلال وسيّئات الأعمال بلطفه وعنايته ، وأن لا يخذله بإيكاله إلى نفسه.
قال سبحانه : ﴿إِنَّ الشَّيْطانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّما يَدْعُوا حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحابِ السَّعِيرِ﴾(٧) ، وقال : ﴿وَلَوْ لا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطانَ إِلَّا قَلِيلاً﴾(٨) ، وقال : ﴿وَلَوْ لا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ ما زَكى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَداً وَلكِنَّ اللهَ يُزَكِّي مَنْ يَشاءُ﴾(٩) .
__________________
(١) أي القلب.
(٢) شراشر القلب : أطرافه ، أو كلّ القلب بجملته.
(٣) الفجر : ٨٩ / ٢٧ - ٣٠.
(٤) في النسخة : الهوات.
(٥) كذا ، والظاهر : وأيقن.
(٦) المؤمنون : ٢٣ / ١.
(٧) فاطر : ٣٥ / ٦.
(٨) النساء : ٤ / ٨٣.
(٩) النور : ٢٤ / ٢١.