نؤمن لرسول حتّى يأتينا بقربان تأكله النّار ، ويكون لها دويّ خفيف ، تنزل من السّماء ، فإن جئتنا بهذا صدّقناك. فنزلت هذه الآية (١) .
ثمّ لمّا كان ذلك السّؤال من باب التّعنّت بهذه المعجزة ، وأنّ أنبياءهم أتوهم ومع ذلك قتلوهم ، كزكريّا ، ويحيى ، وعيسى ، باعتقادهم ، مع أنّ العهد الذي ادّعوه كان من مفترياتهم وأباطيلهم ؛ لوضوح أنّه لا ينحصر دليل صدق النبيّ في هذه المعجزة ، بل كلّ معجزة كافية في إثبات النّبوّة لاشتراك الجميع في كونه خارجا عن طوق البشر ، وتصديقا من الله لدعوى من أتى بها.
ومن الواضح أنّ السّؤال التّعنّتي لا يحسن إجابته ، أمر الله نبيّه صلىاللهعليهوآله بقوله : ﴿قُلْ﴾ يا محمّد ، تبكيتا لهم ، وإظهارا لكذبهم في أنّ عدم إيمانهم بك لعدم إتيانك بقربان تأكله النّار : ﴿قَدْ جاءَكُمْ﴾ وأتى أسلافكم الّذين تتخلقون أنتم بأخلاقهم ، وتتّبعون آثرهم ﴿رُسُلٌ﴾ كثيرة العدد ، عظيمة الشّأن ﴿مِنْ قَبْلِي بِالْبَيِّناتِ﴾ والمعجزات الباهرات ﴿وَبِالَّذِي قُلْتُمْ﴾ وسألتم بعينه من القربان الذي تأكله النّار ﴿فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ﴾ بعدما أتوكم بما أقترحتموه عليهم ، مضافا إلى غيره من المعجزات الدّالّة على صدقهم ﴿إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ﴾ في ما دلّ عليه قولكم من أنّكم ملتزمون بالإيمان بنبيّ يأتيكم بقربان.
﴿فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ جاؤُ بِالْبَيِّناتِ وَالزُّبُرِ وَالْكِتابِ
الْمُنِيرِ (١٨٤)﴾
ثمّ لمّا كانت مقالات المفشركين واليهود سببا لكدورة قلب النبيّ صلىاللهعليهوآله وتحزّنه ، أخذ في تسلية حبيبه بقوله : ﴿فَإِنْ﴾ عارضك اليهود والمشركون و﴿كَذَّبُوكَ﴾ في دعوى نبوّتك ، وصحّة شريعتك ، وفي ما تخبرهم به من سوء صنع أسلافهم ، فإنّ هذا التّكذيب والمعارضة ليس أمرا يخصّك ﴿فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ﴾ كثيرة العدد ، كبيرة المقدار ، كانوا ﴿مِنْ قَبْلِكَ﴾ كنوح ، وإبراهيم وموسى وأضرابهم ، وهم صبروا على التّكذيب ، وما نالهم من المكذبين ، مع أنّهم ﴿جاؤُ﴾ وأتوهم ﴿بِالْبَيِّناتِ﴾ المعجزات الظّاهرات التي لم يبق لأحد معها مجال للتّكذيب ﴿وَالزُّبُرِ﴾ والصّحف السّماوية المشتملة على الأحكام والمواعظ والزّواجر ﴿وَالْكِتابِ الْمُنِيرِ﴾ الموضّح للحقائق من التّوراة ، والإنجيل.
وتخصيص الكتاب بالذّكر مع كونه داخلا في عموم الزّبر ، للإشعار بكونه أشرف منها. وعطف جميعها على البيّنات ، للدّلالة على عدم كون واحد منها معجزا للأنبياء ، وأنّ كون نفس الكتاب معجزا ، من خصائص خاتم النّبيّين صلىاللهعليهوآله ، وكتابه المجيد. ووجه كون الآية تسلية وضوح أنّ البليّة إذا
__________________
(١) تفسير الرازي ٩ : ١٢١.