الثّاني كحيثيّة الإعراب والبناء في علم النّحو أو كحيثيّة الصّحة والاعتلال في علم الصّرف فإنّ حيثيّة الإعراب والبناء وإن كانت هي الحيثيّة المشتركة السّارية في جميع مسائل النّحو إلّا أنّها لا تقع بنفسها وبمفهومها محمولا غالبا بل تقع أقسامها وأنواعها محمولا في القضايا فيقال الفاعل مرفوع والمفعول منصوب والمضاف إليه مجرور ومعلوم أنّ الرّفع والنّصب والجرّ من أنواع تلك الحيثيّة المشتركة وعلى كلّ حال لا فرق بين المقامين في كون الحيثيّة المشتركة هي الموضوع للعلم إمّا بنفسها أو بأنواعها وأقسامها والحيثيّات المائزة بين المسائل من عوارضه الذّاتيّة بالمعنى الّذي عرفت.
المقدّمة الخامسة : قلنا إنّ الجهة المشتركة والجهات المائزة كلتيهما ذاتيّة للمسائل بمعنى أنّهما ثابتة لذات المسائل خارجا إذ كلّ مسألة تنحلّ بالانحلال العقليّ إلى ما به الاشتراك بينها وبين سائر مسائل العلم وإلى ما به الامتياز بينها وبين سائر المسائل فالذّاتيّة هاهنا بمعنى ارتباطها مع ذات الموضوع خارجا مع قطع النّظر عن الأغراض والمقاصد.
والأغراض الدّاعية إلى التّدوين خارجة من الجهتين إذ ليس لها دخل لا في الجهة المشتركة ولا في الجهة المائزة.
أمّا الأغراض الأوّليّة الدّاعية إلى التّدوين فلا تخلو إمّا أن تكون هي نفس العلم بالمسائل بمناط أنّ نفس العلم يكون مطلوبا ذاتيّا فهذا الغرض موجود في نفس كلّ طالب لكلّ علم من العلوم ولا يمكن أن يكون هذا الغرض العامّ مائزا بين العلوم ويكون تمايز العلوم بتمايز هذا الغرض. مثلا المدوّن للفلسفة إن كان غرضه هو العلم بموجوديّة الأشياء على ما هي عليها فالعلم بما هو علم الّذى هو معلوم في الذهن وهو حقائق الأشياء هو التّصديق وهذا التّصديق هو الغرض الأصليّ في جميع العلوم ولا يمكن أن يكون ذلك وجه التّمايز بين علم الفلسفة وغيرها من العلوم.
وإمّا أن تكون الأغراض الأوّليّة غير العلم بالمسائل بما هو علم بل بما هو معلوم مثلا صيانة المقال عن الألحان في علم النّحو وصيانة الفكر عن الخطإ في علم المنطق واستنباط