والثانى ـ أن نسبة الكواكب والطبائع إلى جميع أجزاء الورقة الواحدة والحبة الواحدة ـ واحدة ، ثم إنا نرى الورقة الواحدة من الورد أحد وجهيها فى غاية الحمرة والآخر فى غاية السواد ، فلو كان المؤثر موجبا بالذات لامتنع حصول هذا التفاوت فى الآثار ؛ فعلمنا أن المؤثر قادر مختار. وهذا هو المراد من قوله (١) : (وَما ذَرَأَ لَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُخْتَلِفاً أَلْوانُهُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ). كأنه قال : اذكر ما يرسخ فى عقلك أن الواجب (٢) بالطبع والذات لا يختلف تأثيره ، فإذا نظرت حصول هذا الاختلاف علمت أن المؤثر ليس هو الطبائع ، بل الفاعل المختار ؛ فلهذا جعل مقطع الآية التذكر.
ومن ذلك قوله تعالى (٣) : (قُلْ تَعالَوْا أَتْلُ ما حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ ...) الآيات. فإن الأولى ختمت بقوله : (لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) ، والثانية بقوله : (لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ). والثالثة بقوله : (لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) ؛ لأن الوصايا التى فى الآية الأولى إنما يحمل على تركها عدم العقل الغالب على الهوى ؛ لأن الإشراك بالله لعدم استكمال العقل الدال على توحيده وعظمته. وكذلك عقوق الوالدين لا يقتضيه العقل لسبق إحسانهما إلى الولد بكل طريق. وكذلك قتل الأولاد من الإملاق مع وجود الرازق الحى الكريم ؛ وكذلك إتيان الفواحش لا يقتضيه عقل. وكذلك قتل النفس لغيظ أو غضب فى القاتل ؛ فحسن بعد ذلك يعقلون.
وأما الثانية ، فلتعلقها بالحقوق المالية والقولية ؛ فإن من علم أن له أيتاما يخلفهم من بعده لا يليق به أن يعامل أيتام غيره إلا بما يجب أن يعامل به أيتامه. ومن يكيل أو يزن أو يشهد لغيره لو كان ذلك الأمر له لم يحب أن يكون فيه خيانة
__________________
(١) النحل : ١٣
(٢) فى البرهان : أن الموجب.
(٣) الأنعام : ١٥١ ، ١٥٢ ، ١٥٣