الجهل ، ولأنه لو كان شيء من النّظر يولد الجهل ، لأدى إلى قبح كل نظر ، لأن الإنسان لا يفرق بين النّظر الّذي يولد العلم ، والنّظر الّذي يولد الجهل ، ولا بين الدليل والشبهة ، وإنما يعلم كون الدليل دليلا ، إذا حصل له العلم بالمدلول ، فأما قبل حصوله فلا يعلمه دليلا.
وما أدى إلى قبح كل نظر ، ينبغي أن يحكم بفساده لأنا نعلم ضرورة حسن نظر كثير من أمر الدين والدنيا معا.
والنّظر الّذي ذكرناه لا يصح إلا من كامل العقل (١) * ، فلا بدّ أن نبين ماهية العقل.
والعقل : هو مجموع علوم إذا حصلت كان الإنسان عاقلا ، مثل أن يجب أن يعلم المدركات إذا أدركها وارتفع عنها اللبس ، وأن يعلم أن الموجود لا يخلو من قدم أو حدوث ، وأن المعلوم لا يخلو من وجود أو عدم ، ويعلم وجوب كثير من الواجبات ، وحسن كثير من المحسنات ، مثل وجوب رد الوديعة ، وشكر النعمة ، وحسن الإحسان ، ويعلم قبح كثير من المقبحات ، مثل الظلم المحض ، والكذب العاري من نفع ودفع ضرر ، والعبث وغير ما عددناه ، ويعلم تعلق الفعل بالفاعل (٢) * وقصد المخاطبين ، ويمكنه معرفة ما يمارسه من الصنائع ، ويمكنه أيضا معرفة مخبر الأخبار ، وغير ذلك.
فإذا حصلت هذه العلوم فيه كان كامل العقل يصح منه الاستدلال على الله تعالى ، وعلى صفاته ، وعلى صدق الأنبياء عليهمالسلام.
ووصفت هذه العلوم التي ذكرناها بالعقل لوجهين :
أحدهما : أنه لما كان العلم بقبح كثير من المقبحات صارفا له عن فعلها ، وعلمه
__________________
(١) * أي لا يتحقق ولا يصدر إلا من كامل العقل ، ويمكن أن يراد أنه لا يخلو عن الفساد إلا من كامل العقل ، المراد بكامل العقل العاقل ، وهذا إشارة إلى رد ما ذهب إليه ابن سينا وأتباعه من أنه يشترط في إفادة النّظر في الدليل من الوجه الّذي يدل تفطن الاندراج أي اندراج الأصغر تحت الأوسط حين الحكم في الكبرى.
(٢) * أي كون كل حادث له محدث أما بلا واسطة أو بواسطة.