بذلك أن التحذير إنما يحسن إذا كان الأمر مقتضيا للإيجاب.
ويدل أيضا على صحة ما ذهبنا إليه ما روي أن النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم قال لبريرة (١)* : «ارجعي إلى زوجك فإنه أبو ولدك ، وله عليك حق».
فقالت يا رسول الله : أتأمرني بذلك؟
فقال صلىاللهعليهوآلهوسلم : «لا وإنما أنا شافع» (٢) فعدل عن الأمر إلى الشفاعة ، فلو لا أنه كان يقتضي الإيجاب وإلا لم يكن فرق بينه وبين الشفاعة ، لأن شفاعة النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم مرغب في إجابتها ، فعلم بذلك أن أمره كان يقتضي الإيجاب ، فلأجل ذلك لم يأمرها ، لأنه أراد ترغيبها في ذلك ولم يرد الإيجاب.
ويمكن أن يعتمد في أن الأمر يقتضي الإيجاب على أن يقال : إن الاحتياط يقتضي ذلك ، لأنه متى امتثل المأمور به ، فإن كان مقتضاه الندب فقد فعله على كل حال ، وإن كان مشتركا فقد أمن الذم والعقاب من مخالفته لو كان واجبا ، وإن كان واجبا فقد امتثل المأمور به ، فالاحتياط يوجب عليه ذلك على المذاهب كلها.
إلا أن هذا وإن أمكن فإنما يمكن أن يقال : يجب عليه أن يفعل المأمور به ولا يعتقد فيه أن له صفة الوجوب ، لأنه إن اعتقد ذلك وهو لا يأمن أن لا يكون كذلك يكون اعتقاده جهلا ، وإنما يسلم له ذلك إذا خلا من اعتقاد في المأمور به واقتصر على نفس الفعل ، فإذا فعل ذلك كان ذلك معتمدا.
__________________
(١) * بريرة بضم الموحدة وفتح المهملتين وسكون الخاتمة كانت جارية لعائشة ولها زوج ، فلما أعتقتها عائشة اختارت مفارقة زوجها.
(٢) روى المتقي الهندي في كنز العمال : «عن ابن عباس : أن زوج بريرة كان عبدا لبني فلان ناس من الأنصار يقال : له مغيث ، والله لكأني انظر إليه الآن يتبعها في سكك المدينة وهو يبكي! فكلم رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم بريرة أن ترجع إلى زوجها ، فقالت : يا رسول الله ، أتأمرني بذلك؟ فقال : إنما أنا شفيع له ، فقالت : لا والله لا أرجع إليه أبدا» [كنز العمال ١٦ : ٥٤٧ رقم ٤٥٨٣٨] والحديث أخرجه البخاري في كتاب الطلاق باب (شفاعة النبي في زوج بريرة) ، وابن ماجة في كتاب الطلاق باب (خيار الأمة إذا أعتقت) ، وأبو داود في باب (المملوكة تعتق تحت حر أو عبد).