والآخر : أنه يذمه من لا يعلم أن السيد يستضر بمخالفته وأنه ينتفع بامتثاله ، فلو كان الأمر على ما قيل لما جاز أن يذمه إلا من عرف ذلك ، وقد علمنا خلاف ذلك.
على أنا لا نسلم ذلك لأن السيد قد لا يستبصر بمخالفة عبده ويستحق العبد مع ذلك الذم إذا خالفه ، ألا ترى أن من قال لغلامه : «اسقني الماء» فلم يسقه وكان هناك غلام آخر فسقاه ، فإن العقلاء يذمون العبد المخالف ، وإن كان السيد لم يدخل عليه ضرر ، لأنه قد بلغ غرضه ومراده ، فلو كان لما قالوه لما حسن ذلك على حال.
وكذلك يذمونه وإن خالف منافع ترجع إلى العبد ، ألا ترى أنه لو قال له : «اغسل ثيابك ، وادخل الحمام ، وكل الخبز» وما أشبه ذلك فلم يفعل يحسن منه أن يؤدبه على ذلك ويذمه ، فلو لا أن ذلك كان يجب عليه وإلا لم يحسن ذلك.
وليس لهم أن يقولوا : إنه إذا خالفه فيما عددتموه عاد ذلك بالضرر عليه ، فلأجل ذلك حسن ذمه.
وذلك : أنه إن كان الأمر على ما قالوه سقط فرقهم بذلك بين منافع تخصه وبين منافع يرجع إلى السيد ، لأنهم راموا بذلك أن يفصلوا بين أن يستحق الذم بمخالفة أمر سيده لمنافع تعود إليه ، وبين منافع ترجع إلى العبد ، وعلى هذا الفرض لا فصل بينهما لأن في كلا الحالين (١) يعود الضرر بالمخالفة على السيد ، فبطل الفصل. ومن سوى بينهما كان الجواب عنه ما تقدم.
ويدل أيضا على صحة ما ذهبنا إليه قوله تعالى مخاطبا لإبليس : (ما مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ)(٢) فقرعه (٣) على مخالفة الأمر ، فلو لا أن أمره كان يقتضي الإيجاب ، وإلا لم يستحق التوبيخ.
وليس لهم أن يقولوا : إنه إنما ذمه لأنه كان قد دله على أن ما أمره به واجب
__________________
(١) في الأصل : كلا الحالتين.
(٢) الأعراف : ١٢ ، أيضا راجع : «التبيان في تفسير القرآن ٤ : ٣٥٩ ـ ٣٥٧».
(٣) التقريع : التأنيب والتعنيف. وقيل : هو الإيجاع باللوم ، وقرعت الرّجل إذا وبخته وعذلته. (لسان العرب ١١ : ١٢١).