أمّا أوّلا : فبالنقض بجعل الاصول والأمارات والأدلّة الظنيّة ، فانّ مثل هذا التناقض وارد عليها حرفا بحرف من غير تفاوت ، فإنّ التعبّد بالاستصحاب وأصالة البراءة وغيرها مع تخلّفها عن الواقع كثيرا كيف يجتمع مع ثبوت الأحكام الواقعيّة غير مقيّدة بالعلم والجهل. مثلا الشيء لو كان نجسا أو حراما في الواقع بجعل الشارع إلّا أنّه مستصحب الطّهارة والحلّية فلمّا جعل الاستصحاب حجّة وكلّف التعبّد به فقد حكم بعدم النجاسة والحرمة ، وهو التناقض المذكور ، ومثل ذلك يقرّر التناقض في الأمارات والأدلّة الظنّية بلا تفاوت ، ومن هنا ذهب ابن قبة من قدماء أصحابنا إلى أنّ التعبّد بخبر الواحد مستحيل في العقل ، لاستلزامه تحليل الحرام وتحريم الحلال ، فإنّه هذا التناقض بعينه. فاتّضح أنّ ما ذكر بالنسبة إلى ورود التناقض من واد واحد.
وأمّا ثانيا : فبالحلّ وتوضيحه يحصل ببيان كيفيّة جعل الاصول والأدلّة الظنيّة أوّلا كي يتضح طرد الكلام فيما نحن فيه. فنقول : إنّ ظاهر جمهور العلماء وصريح جمع منهم أنّ الأحكام الظاهريّة أحكام شرعيّة مجعولة في قبال الأحكام الواقعيّة الأوليّة يحصل بها الإطاعة والعصيان ويترتّب عليها آثار أخر أيضا ممّا يترتّب على الأحكام الشرعيّة من الإجزاء أو غيره ممّا ليس هنا محلّ ذكرها ومن هنا قد اشكل عليهم امور :
منها التناقض الذي نحن بصدده وقد أجابوا عن التناقض بوجوه عديدة لعلّها تأتي فيما سيأتي في مقامات يناسبها بما فيها ، أوجهها ما اختارها المصنّف قدسسره في رسالة حجّية المظنّة ـ وإن قال بغيره في أوّل رسالة البراءة ـ وهو انّا نمنع كون مؤدّيات الاصول والأمارات وكذا الأدلّة الظنّية أحكاما شرعيّة ، بل هي أحكام عذريّة ، بمعنى أن الشّارع جعلها أعذارا للمكلّفين إذا سلكوها فإن أصابوا فقد أدركوا الأحكام الشرعيّة ، فإن أخطئوا فهم معذورون لا يعاقبون على الواقع ، وهذا نظير الأعذار العقليّة كالجهل والعجز بعينه ، فكما أنّ العاجز والجاهل في حال عجزه وجهله لم يجعل له حكم سوى حكمه الواقعي وكان معذورا بالنسبة إليها بحكم العقل ،