قوله : (وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ) «أن تعفوا» في محل رفع بالابتداء لأنه في تأويل «عفوكم» ، و «أقرب» خبره. وقرأ الجمهور «تعفوا» بالخطاب ، والمراد الرجال والنساء ، فغلّب المذكّر ، والظاهر أنه للأزواج خاصة ، لأنهم المخاطبون في صدر الآية ، وعلى هذا فيكون التفاتا من غائب ، وهو قوله : «الذي بيده عقدة النكاح» ـ على قولنا أنّ المراد به الزوج وهو المختار ـ إلى الخطاب الأول في صدر الآية. وقرأ الشعبي (١) وأبو نهيك (٢) : «يعفوا» بياء من تحت.
قال الشيخ (٣) : «جعله غائبا ، وجمع على معنى : (الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكاحِ) لأنه للجنس لا يراد به واحد» يعني أنّ قوله : «وأن يعفوا» أصله «يعفوون» فلمّا دخل الناصب حذفت نون الرفع ثم حذفت الواو التي هي لام الكلمة ، وهذه الياء فيه هي ضمير الجماعة ، جمع على معنى الموصول ، لأنه وإن كان مفردا لفظا فهو مجموع في المعنى لأنه جنس. ويظهر فيه وجه آخر ، وهو أن تكون الواو لام الكلمة ، وفي هذا الفعل ضمير مفرد يعود على الذي بيده عقدة النكاح ، إلا أنه قدّر الفتحة في الواو استثقالا كما تقدّم في قراءة الحسن ، تقديره : وأن يعفو الذي بيده عقدة.
قوله : (لِلتَّقْوى) متعلّق بأقرب ، وهي هنا للتعدية ، وقيل : بل هي للتعليل. و «أقرب» تتعدّى تارة باللام كهذه الآية ، وتارة بإلى كقوله تعالى : (وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ)(٤). وليست «إلى» بمعنى اللام ، وقيل : بل هي بمعناها ، وهذا مذهب الكوفيين ، أعني التجوّز في الحروف. ومعنى اللام و «إلى» في هذا الموضع يتقارب.
وقال أبو البقاء : «ويجوز في غير القرآن : «أقرب من التقوى وإلى التقوى» إلّا أنّ اللام هنا تدلّ على معنى غير معنى «إلى» وغير معنى «من» ، فمعنى اللام : العفو أقرب من أجل التقوى ، واللام تدلّ على علة قرب العفو ، وإذا قلت : أقرب إلى التقوى كان المعنى : يقارب التقوى ، كما تقول : أنت أقرب إليّ ، و «أقرب من التقوى» يقتضي أن يكون العفو والتقوى قريبين ، ولكنّ العفو أشدّ قربا من التقوى ، وليس معنى الآية على هذا» انتهى. فجعل اللام للعلة لا التعدية ، و «إلى» للتعدية.
واعلم أنّ فعل التعجب وأفعل التفضيل يتعدّيان بالحرف الذي يتعدّى به فعلهما قبل أن يكون تعجبا وتفضيلا نحو : «ما أزهدني فيه وهو أزهد فيه» ، وإن كان من متعدّ في الأصل : فإن كان الفعل يفهم علما أو جهلا تعدّيا بالباء نحو : «هو أعلم بالفقه» ، وإن كان لا يفهم ذلك تعدّيا باللام نحو : «ما أضربك لزيد» ، و «أنت أضرب لعمرو» إلّا في باب الحبّ والبغض فإنهما يتعدّيان إلى المفعول ب «في» نحو : «ما أحبّ زيدا في عمرو وأبغضه في خالد ، وهو أحبّ في بكر وأبغض في خالد» وإلى الفاعل المعنوي ب «إلى» نحو : «زيد أحبّ إلى عمرو من خالد ، وما أحبّ زيدا إلى عمرو» ، أي : إنّ عمرا يحب زيدا. وهذه قاعدة جليلة قلّ من يضبطها.
__________________
(١) عامر بن شراجيل بن عبد ذي كبار الشعبي الحميري أبو عمرو راوية من التابعين يضرب المثل بحفظه توفي سنة ١٠٣ ه تهذيب التهذيب (٥ / ٦٥) ، حلية الأولياء (٤ / ٣١٠) ، تاريخ بغداد (١٢ / ٢٢٧) ، سمط اللآلي (٧٥١).
(٢) علباد بن أحمد اليشكري روى عنه العتكي انظر غاية النهاية (١ / ٥١٥).
(٣) انظر البحر المحيط (٢ / ٢٣٨).
(٤) سورة ق ، آية (١٦).