«أولادهنّ» عامّ ، لإضافته إلى ضمير العامّ ، وإن كان أيضا جمع قلة. ومنه إبراز الجملة الثانية مبتدأ وخبرا ، والخبر جارّ ومجرور بحرف «على» الدالّ على الاستعلاء المجازي في الوجوب وقدّم الخبر اعتناء به. وقدّم الرزق على الكسوة لأنه الأهمّ في بقاء الحياة ولتكرره كلّ يوم ، وأبرزت الثالثة فعلا ومرفوعه ، وجعل مرفوعه نكرة في سياق النفي ليعمّ ويتناول ما سبق لأجله من حكم الوالدات في الإرضاع والمولود له في الرزق والكسوة الواجبتين عليه للوالدة ، وأبرزت الرابعة كذلك لأنها كالإيضاح لما قبلها والتفصيل بعد الإجمال ، ولذلك لم يعطف عليها كما ذكرته لك. ولمّا كان تكليف النفس فوق الطاقة ومضارّة أحد الزوجين للآخر ممّا يتكرّر ويتجدّد أتى بهاتين الجملتين فعليتين وأدخل عليهما حرف النفي وهو «لا» لأنه موضوع للاستقبال غالبا.
وأمّا في قراءة من جزم فإنّها ناهية ، وهي للاستقبال فقط ، وأضاف الولد إلى الوالدة والمولود له تنبيها على الشفقة والاستعطاف ، وقدّم ذكر عدم مضارّة الوالد مراعاة لما تقدّم من الجملتين ، إذ قد بدأ بحكم الوالدات وثنّى بحكم الوالد. ولو لا خوف السآمة وأنّ الكتاب غير موضوع لهذا الفنّ لذكرت ما تحتمله هذه الآية الكريمة من ذلك.
قوله : (وَعَلَى الْوارِثِ مِثْلُ ذلِكَ) هذه جملة من مبتدإ وخبر ، قدّم الخبر اهتماما ، ولا يخفى ما فيها ، وهي معطوفة على قوله : «وعلى المولود له رزقهنّ» وما بينهما اعتراض ؛ لأنه كالتفسير لقوله «بالمعروف» كما تقدّم التنبيه عليه.
والألف واللام في «الوارث» بدل من الضمير عند من يرى ذلك ، ثم اختلفوا في ذلك الضمير : هل يعود على المولود له وهو الأب ، فكأنه قيل : وعلى وارثه ، أي : وارث المولود له ، أو يعود على الولد نفسه ، أي : وارث الولد؟ وهذا على حسب اختلافهم في الوارث.
وقرأ يحيى بن يعمر : «الورثة» بلفظ الجمع ، والمشار إليه بقوله : «مثل ذلك» إلى الواجب من الرزق والكسوة ، وهذا أحسن من قول من يقول : أشير به إلى الرزق والكسوة. وأشير بما للواحد للاثنين كقوله : (عَوانٌ بَيْنَ ذلِكَ)(١). وإنما كان أحسن لأنه لا يحوج إلى تأويل ، وقيل : المشار إليه هو عدم المضارّة ، وقيل : أجرة المثل ، وغير ذلك.
قوله : (عَنْ تَراضٍ) فيه وجهان :
أحدهما : ـ وهو الظاهر ـ أنه متعلّق بمحذوف إذ هو صفة ل «فصالا» ، فهو في محلّ نصب أي : فصالا كائنا عن تراض ، وقدّره الزمخشري : صادرا عن تراض ، وفيه نظر من حيث كونه كونا مقيّدا.
والثاني : أنه متعلق بأراد ، قاله أبو البقاء ، ولا معنى له إلّا بتكلف. و «عن» للمجاوزة مجازا لأنّ التراضي معنى لا عين.
و «تراض» مصدر تفاعل ، فعينه مضمومة وأصله : تفاعل تراضو ، ففعل فيه ما فعل ب «أدل» جمع دلو ، من قلب الواو ياء والضمة قلبها كسرة ، إذ لا يوجد في الأسماء المعربة واو قبلها ضمة لغير الجمع إلا ويفعل بها ذلك تخفيفا.
__________________
(١) سورة البقرة ، آية (٦٨).