والتولّي والسّعي يحتملان الحقيقة أي : تولّى ببدنه عنك وسعى بقدميه ، والمجاز بأن يريد بالتولّي الرجوع عن القول الأول ، وبالسعي العمل والكسب من السّعاية ، وهو مجاز شائع ، ومنه : (وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا ما سَعى)(١) ، وقال امرؤ القيس (٢) :
٩٠١ ـ فلو أنّ ما أسعى لأدنى معيشة |
|
كفاني ولم أطلب قليل من المال (٣) |
ولكنّما أسعى لمجد مؤثّل |
|
وقد يدرك المجد المؤثّل أمثالي |
وقال آخر :
٩٠٢ ـ أسعى على حيّ بني مالك |
|
كلّ امرئ في شأنه ساعي (٤) |
والسّعاية بالقول ما يقتضي التفريق بين الأخلّاء ، قال :
٩٠٣ ـ ما قلت ما قال وشاة سعوا |
|
سعي عدوّ بيننا يرجف (٥) |
قوله : (فِي الْأَرْضِ) «متعلّق ب «سعى» ، فإن قيل : معلوم أنّ السّعي لا يكون إلّا في الأرض قيل : لأنه يفيد العموم ، كأنه قيل : أيّ مكان حلّ فيه من الأرض أفسد فيه ، فيدلّ لفظ الأرض على كثرة فساده ، إذ يلزم من عموم الظّرف عموم المظروف ، و «ليفسد» متعلق ب «سعى» علة له.
قوله : (وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ) الجمهور على : «يهلك» بضم الياء وكسر اللام ونصب الكاف. «الحرث» مفعول به ، وهي قراءة واضحة من : أهلك يهلك ، والنصب عطف على الفعل قبله ، وهذا شبيه بقوله تعالى : (مَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ)(٦) فإنّ قوله : «ليفسد» يشتمل على أنه يهلك الحرث والنسل ، فخصّهما بالذكر لذلك. وقرأ أبيّ : «وليهلك» بإظهار لام العلة وهي معنى قراءة الجمهور ، وقرأ أبو حيوة ـ ورويت عن ابن كثير وأبي عمرو ـ «ويهلك الحرث والنّسل» بفتح الياء وكسر اللام من هلك الثلاثي ، و «الحرث» فاعل ، و «النسل» عطف عليه. وقرأ قوم : «ويهلك الحرث» من أهلك ، و «الحرث» مفعول به إلا أنهم رفعوا الكاف. وخرّجت على أربعة أوجه : أن تكون عطفا على «يعجبك» أو على «سعى» لأنه في معنى المستقبل ، أو على خبر مبتدإ محذوف أي : وهو يهلك ، أو على الاستئناف. وقرأ الحسن : «ويهلك» مبنيا للمفعول ، «الحرث» رفعا ، وقرأ أيضا : «ويهلك» بفتح الياء واللام ورفع الكاف ، «الحرث» رفعا على الفاعلية ، وفتح عين المضارع هنا شاذّ لفتح عين ماضيه ، وليس عينه ولا لامه حرف حلق فهو مثل ركن يركن بالفتح فيهما. و (الْحَرْثَ) تقدّم (٧).
والنّسل : مصدر نسل ينسل أي : خرج بسرعة ، ومنه : نسل وبر البعير ، ونسل ريش الطائر أي : خرج وتطاير ، وقيل : النسل الخروج متتابعا ، ومنه : «نسال الطائر» ما تتابع سقوطه من ريشه ، قال امرؤ القيس :
٩٠٤ ـ وإن تك قد ساءتك منّي خليقة |
|
فسلّي ثيابي من ثيابك تنسل (٨) |
__________________
(١) سورة النجم ، آية (٣٩).
(٢) سورة النجم ، آية (٣٩).
(٣) انظر ديوانه (١٢٩) ، شرح المفصل لابن يعيش (١ / ٧٩) ، الإنصاف (٤٨) ، الدرر (١ / ١٢٢).
(٤) البيت لأبي القيس بن الأسلت وهو من شواهد البحر (٢ / ١١٥) ، اللسان «سعى».
(٥) البيت من شواهد البحر (٢ / ١١٥).
(٦) سورة البقرة ، آية (٩٨).
(٧) سورة البقرة ، آية (٧١).
(٨) البيت في ديوانه (١٣) ، شرح القصائد العشر (٧٦) ، والخليقة والخلق واحد ، وقوله : (فسلي ثيابي من ثيابك). ـ