ممّا تقدّم إلا أني ذكرته بالتنصيص ، تسهيلا للأمر فإنه موضع يحتاج إلى نظر وتأمل. وهذا نهاية القول في هذه المسألة بالنسبة لهذا الكتاب. و «أو» هنا قيل للإباحة ، وقيل للتخيير ، وقيل : بمعنى بل.
قوله : (مَنْ يَقُولُ : رَبَّنا آتِنا) «من» مبتدأ ، وخبره في الجارّ قبله ، ويجوز أن تكون فاعلة عند الأخفش ، وأن تكون نكرة موصوفة. وفي هذا الكلام التفات ، إذ لو جرى على النسق الأول لقيل : «فمنكم» ، وحمل على معنى «من» إذ جاء جمعا في قوله : (رَبَّنا آتِنا) ، ولو حمل على لفظها لقال : «ربّ آتني».
وفي مفعول «آتنا» الثاني ـ لأنه يتعدّى لاثنين ثانيهما غير الأول ـ ثلاثة أقوال :
أظهرها : أنه محذوف اختصارا أو اقتصارا ، لأنه من باب «أعطى» ، أي : آتنا ما نريد أو مطلوبنا.
والثاني : أن «في» بمعنى «من» أي : من الدنيا.
والثالث : أنها زائدة ، أي : آتنا الدنيا ، وليسا بشيء.
قوله تعالى : (فِي الدُّنْيا حَسَنَةً) : يجوز في الجار وجهان :
أحدهما : أن يتعلّق بآتنا كالذي قبله.
والثاني : أجازه أبو البقاء أن يتعلّق بمحذوف على أنه حال من «حسنة» لأنه كان في الأصل صفة لها ، فلما قدّم عليها انتصب حالا.
(وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنا عَذابَ النَّارِ (٢٠١) أُولئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا وَاللهُ سَرِيعُ الْحِسابِ (٢٠٢) وَاذْكُرُوا اللهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُوداتٍ فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقى وَاتَّقُوا اللهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ) (٢٠٣)
قوله : (وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً) هذه الواو عاطفة شيئين على شيئين متقدمين. ف «في الآخرة» عطف على «في الدنيا» بإعادة العامل. و «حسنة» عطف على «حسنة». والواو تعطف شيئين فأكثر على شيئين فأكثر. تقول : «أعلم الله زيدا عمرا فاضلا وبكرا خالدا صالحا» اللهم إلا أن تنوب عن عاملين ففيها خلاف لأهل العربية وتفصيل كثير يأتي في موضعه إن شاء الله تعالى. وليس هذا كما زعم بعضهم أنه من باب الفصل بين حرف العطف وهو على حرف واحد وبين المعطوف بالجار والمجرور ، وجعله دليلا على أبي علي الفارسي حيث منع ذلك إلا في ضرورة ؛ لأن هذا من باب عطف شيئين على شيئين كما ذكرت لك ، لا من باب الفصل ، ومحلّ الخلاف إنما هو نحو : «أكرمت زيدا وعندك عمرا». وإنما يردّ على أبي علي بقوله : (إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَماناتِ إِلى أَهْلِها ، وَإِذا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ)(١) وقوله تعالى : (اللهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَ)(٢)
__________________
(١) انظر البحر المحيط (٢ / ١٠٤).
(٢) سورة النساء ، آية (٥٨).
(٣) سورة الطلاق ، آية (١٢).