الثالث : أن يكون الحذف من الثاني ، أي : ولكن البرّ برّ من آمن ، وهذا تخريج سيبويه واختياره ، وإنما اختاره لأنّ السابق إنما هو نفي كون البر هو تولية الوجه قبل المشرق والمغرب ، فالذي يستدرك إنما هو من جنس ما ينفى ، ونظير ذلك : «ليس الكرم أن تبذل درهما ولكن الكرم بذل الآلاف» ولا يناسب «ولكن الكريم من يبذل الآلاف».
الرابع : أن يطلق المصدر على الشخص مبالغة نحو : «رجل عدل». ويحكى عن المبرد : «لو كنت ممّن يقرأ لقرأت : «ولكنّ البرّ» بفتح الباء وإنما قال ذلك لأن «البرّ» اسم فاعل تقول : برّ يبرّ فهو بارّ وبرّ ، فتارة تأتي به على فاعل وتارة على فعل.
الخامس : أن المصدر وقع موقع اسم الفاعل نحو : «رجل عدل» أي عادل ، كما قد يقع اسم الفاعل موقعه نحو : «أقائما وقد قعد الناس» في قول ، وهذا رأي الكوفيين.
والأولى فيه ادّعاء أنه محذوف من فاعل ، وأن أصله بارّ ، فجعل «برّا» ك «سرّ» ، وأصله : سارّ ، وربّ أصله رابّ. وقد تقدّم ذلك.
وجعل الفراء «من آمن» واقعا موقع «الإيمان» فأوقع اسم الشخص على المعنى كعكسه ، كأنه قال : «ولكنّ البرّ الإيمان بالله». قال : «والعرب تجعل الاسم خبرا للفعل وأنشد :
٨٢٩ ـ لعمرك ما الفتيان أن تنبت اللّحى |
|
ولكنّما الفتيان كلّ فتى ندي (١) |
جعل نبات اللحية خبرا للفتيان ، والمعنى : لعمرك ما الفتوة أن تنبت اللّحى.
وقرأ نافع وابن عامر : «ولكن البرّ» هنا وفيما بعد بتخفيف لكن ، وبرفع «البرّ» ، والباقون بالتشديد والنصب ، وهما واضحتان ممّا تقدّم في قوله : (وَلكِنَّ الشَّياطِينَ كَفَرُوا)(٢) ، وقرئ : «ولكنّ البارّ» بالألف وهي تقوّي أنّ «البرّ» بالكسر المراد به اسم الفاعل لا المصدر.
ووحّد «الكتاب» لفظا والمراد به الجمع ، وحسّن ذلك كونه مصدرا في الأصل ، أو أراد به الجنس ، أو أراد به القرآن ، فإنّ من آمن به فقد آمن بكلّ الكتب فإنّه شاهد لها بالصحة.
قوله : (عَلى حُبِّهِ) في محلّ نصب على الحال ، العامل فيه «آتى» ، أي : آتى المال حال محبّته له واختياره إياه. والحبّ مصدر حببت لغة في أحببت كما تقدّم ، ويجوز أن يكون مصدر الرباعي على حذف الزوائد ، ويجوز أن يكون اسم مصدر وهو الإحباب كقوله : (أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَباتاً)(٣).
والضمير المضاف إليه هذا المصدر فيه أربعة أقوال :
أظهرها : أنه يعود على المال لأنه أبلغ من غيره كما ستقف عليه.
الثاني : أنه يعود على الإيتاء المفهوم من قوله : «آتى» أي : على حبّ الإيتاء ، وهذا بعيد من حيث المعنى.
__________________
(١) البيت من شواهد المغني (٢ / ٦٩١) ، وانظر معاني القرآن للفراء (١ / ١٠٥).
(٢) سورة البقرة ، آية (١٠٢).
(٣) سورة نوح ، آية (١٧).