الجواب والجزاء ، قال : والذي تحصل فيها أنها لا تقع ابتداء كلام بل لا بد أن يسبقها كلام لفظا ، أو تقديرا ، وما بعدها في اللفظ أو التقدير وإن كان متسببا عما قبلها فهي في ذلك على وجهين أحدهما : أن تدل على إنشاء الارتباط والشرط بحيث لا يفهم الارتباط من غيرها مثال ذلك : أزورك فتقول : إذا أزورك ، فإنما تريد الآن أن تجعل فعله شرطا لفعلك ، وإنشاء السببية في ثاني حال من ضرورته أن يكون في الجواب ، وبالفعلية في زمان مستقبل ، وفي هذا الوجه تكون عاملة ولعملها شروط مذكورة في النحو.
الوجه الثاني : أن تكون مؤكدة لجواب ارتبط بمقدم ، أو منبهة على مسبب حصل في الحال ، وهي في الحالين غير عاملة لأن المؤكدات لا يعتمد عليها ، والعامل يعتمد عليه ، وذلك نحو : «إن تأتني إذا آتيك» و «والله إذا لأفعلن» فلو أسقطت إذا لفهم الارتباط ، ولما كانت في هذا الوجه غير معتمدة عليها جاز دخولها على الجملة الاسمية الصريحة ، نحو : «أزورك» فتقول : «إذا أنا أكرمك» ، وجاز توسطها نحو : «أنا إذا أكرمك» وتأخرها وإذا تقرر هذا فجاءت «إذا» في الآية مؤكدة للجواب المرتبط بما تقدم ، وإنما قررت معناها هنا لأنها كثيرة الدور في القرآن فتحتمل في كل موضع على ما يناسب من هذا الذي قررناه انتهى كلامه.
واعلم أنها إذا تقدمها عاطف جاز إعمالها وإهمالها وهو الأكثر ، وهي مركبة من همزة وذال ونون ، وقد شبهت العرب نونها بتنوين المنصوب فقلبوها في الوقف ألفا وكتبوها الكتاب على ذلك ، وهذا نهاية القول فيها.
وجاء في هذا المكان (مِنْ بَعْدِ ما جاءَكَ) وقال قبل هذا : (بَعْدَ الَّذِي جاءَكَ)(١) وفي الرعد : (بَعْدِ ما جاءَكَ)(٢) فلم يأت ب «من» الجارة إلا هنا ، واختص موضعا بالذي وموضعين ب «ما» فما الحكمة في ذلك؟ والجواب ما ذكره بعضهم (٣) ، وهو أن الذي أخص و «ما» أشد إبهاما فحيث أتى بالذي أشير به إلى العلم بصحة الدين الذي هو الإسلام المانع من ملتي اليهود والنصارى ، فكان اللفظ الأخص الأشهر أولى فيه ، لأنه علم بكل أصول الدين ، وحيث أتى بلفظ «ما» أشير به إلى العلم بركن من أركان الدين أحدهما : القبلة ، والآخر : بعض الكتاب لأنه أشار إلى قوله : (وَمِنَ الْأَحْزابِ مَنْ يُنْكِرُ بَعْضَهُ)(٤) قال : وأما دخول «من» ففائدته ظاهرة وهي بيان أول الوقت الذي وجب «على» عليهالسلام أن يخالف أهل الكتاب في قبلتهم ، والذي يقال في هذا : إنه من باب التنوع في البلاغة.
(الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقاً مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (١٤٦) الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ) (١٤٧)
قوله تعالى : (الَّذِينَ آتَيْناهُمُ) : فيه ستة أوجه :
أظهرها : أنه مرفوع بالابتداء ، والخبر وقوله «يعرفونه».
الثاني : أنه خبر مبتدأ محذوف أي : هم الذين آتيناهم.
الثالث : النصب بإضمار أعني.
__________________
(١) سورة البقرة ، آية (١٢٠).
(٢) سورة الرعد ، آية (٣٧).
(٣) انظر البحر المحيط (١ / ٤٣٣).
(٤) سورة الرعد ، آية (٣٦).