الثالث : أنه منصوب على القطع ، وهو رأي الكوفيين ، وكان الأصل عندهم : إبراهيم الحنيف ، فلما نكره لم يمكن اتباعه ، وقد تقدم تحرير ذلك.
الرابع : وهو المختار أن يكون حالا من «ملة» ، فالعامل فيه ما قدرناه عاملا فيها ، وقد تقدم ، وتكون حالا لازمة ، لأن الملة لا تتغير عن هذا الوصف ، وكذلك على القول بجعلها حالا من «إبراهيم» ، لأنه لم ينتقل عنها ، فإن قيل : صاحب الحال مؤنث ، فكان ينبغي أن يطابقه في التأنيث فيقال : حنيفة ، فالجواب من وجهين :
أحدهما : أن فعيلا يستوي فيه المذكر والمؤنث.
والثاني : أن الملة بمعنى الدين ، ولذلك أبدلت منه في قوله : (دِيناً قِيَماً مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً)(١) ذكر ذلك ابن الشجري (٢) في «أماليه». والحنف : الميل ، ومنه سمي الأحنف لميل إحدى قدميه بالأصابع إلى الأخرى قالت أمه :
٧٤٦ ـ والله لو لا حنف برجله |
|
ما كان في فتيانكم من مثله (٣) |
ويقال : رجل أحنف وامرأة حنفاء ، وقيل : هو الاستقامة وسمي المائل الرجل بذلك تفاؤلا كقولهم للديغ : «سليم» ، وللمهلكة : «مفازة» قاله ابن قتيبة (٤) وقيل : الحنيف لقب لمن تدين بالإسلام قال عمرو :
٧٤٧ ـ حمدت الله حين هدى فؤادي |
|
إلى الإسلام والدين الحنيف (٥) |
قاله القفال (٦) ، وقيل : الحنيف : المائل عما عليه العامة إلى ما لزمه قاله الزجاج وأنشد :
٧٤٨ ـ ولكنّا خلقنا إذ خلقنا |
|
حنيفا ديننا عن كلّ دين (٧) |
(قُولُوا آمَنَّا بِاللهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْنا وَما أُنْزِلَ إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطِ وَما أُوتِيَ مُوسى وَعِيسى وَما أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (١٣٦) فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ ما آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما هُمْ فِي شِقاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ)(١٣٧)
__________________
(١) سورة الأنعام ، آية (١٦١).
(٢) هبة الله بن علي بن محمد بن علي بن عبد الله المعروف بابن الشجري صاحب الأمالي والحماسة ضاهى به حماسة أبي تمام الطائي توفي في سادس رمضان سنة اثنتين وأربعين وخمسمائة البغية (٢ / ٣٢٤) ، معجم الأدباء (١٩ / ٢٨٣).
(٣) البيت ذكره ابن منظور في اللسان «حفف».
(٤) عبد الله بن مسلم بن قتيبة الدينوري النحوي اللغوي الكاتب كان رأسا في العربية واللغة والأخبار وأيام الناس صنف إعراب القرآن ومعاني القرآن وغريب القرآن ومشكل القرآن توفي سنة سبع وستين ومائتين. البغية (٢ / ٦٤).
(٥) البيت في سيرة ابن هشام يعزى لحمزة انظر السيرة (١ / ٢٩٣) ، وهو من شواهد البحر (١ / ٣٩٨) ، وفيه النسبة إلى عمر.
(٦) محمد بن علي بن إسماعيل الشاشي القفال أبو بكر من أكابر علماء عصره بالفقه والحديث واللغة والأدب من أهل ما وراء النهر توفي سنة ٣٦٥ ه وفيات الأعيان (١ / ٤٥٨) ، تهذيب الأسماء (٢ / ٢٨٢) ، ابن السبكي (٢ / ١٧٦) ، مفتاح السعادة (١ / ٢٥٢) ، الأعلام (٦ / ٢٧٤).
(٧) البيت من شواهد البحر (١ / ٣٩٨).