أحدهما : أنه متعلق بجاعل ، أي : لأجل الناس.
والثاني : أنه حال من إماما ، فإنه صفة نكرة قدم عليها فيكون حالا منها إذ الأصل : إماما للناس ، فعلى هذا يتعلق بمحذوف والإمام : اسم ما يؤتم به ، أي : يقصد ويتبع كالإزار اسم ما يؤتزر به ، ومنه قيل لخيط البناء «إمام» ويكون في غير هذا جمعا لأمّ اسم فاعل من أم يؤم نحو : قائم وقيام ، ونائم ونيام وجائع وجياع.
قوله : (وَمِنْ ذُرِّيَّتِي) فيه ثلاثة أقوال :
أحدها : أن «من ذريتي» صفة لموصوف محذوف هو مفعول أول ، والمفعول الثاني والعامل فيهما محذوف تقديره : قال واجعل فريقا من ذريتي إماما ، قاله أبو البقاء.
الثاني : أن ومن ذريتي عطف على الكاف ، كأنه قال : «وجاعل بعض ذريتي» كما يقال لك : سأكرمك فتقول وزيدا.
قال الشيخ (١) : لا يصح العطف على الكاف لأنها مجرورة ، فالعطف عليها لا يكون إلا بإعادة الجار ولم يعد ، ولأن من لا يمكن تقدير إضافة الجار إليها لكونها حرفا وتقديرها مرادفة لبعض حتى تصح الإضافة إليها لا يصح ، ولا يصح أن يقدر العطف من باب العطف على موضع الكاف ، لأنه نصب فتجعل «من» في موضع نصب ، لأنه ليس مما يعطف فيه على الموضع في مذهب سيبويه لفوات المحرز ، وليس نظير ما ذكر لأن الكاف في «سأكرمك» في موضع نصب.
الثالث : قال الشيخ (٢) : والذي يقتضيه المعنى أن يكون من ذريتي ـ متعلقا بمحذوف التقدير : واجعل من ذريتي إماما ، لأن «إبراهيم» فهم من قوله : إني جاعلك للناس إماما الاختصاص ، فسأل أن يجعل من ذريته إماما ، فإن أراد الشيخ التعلق الصناعي فيتعدى «جاعل» لواحد فهذا ليس بظاهر ، وإن أراد التعلق المعنوي فيجوز أن يريد ما يريده أبو البقاء ، ويجوز أن يكون «من ذريتي» مفعولا ثانيا قدم على الأول ، فيتعلق بمحذوف ، وجاز ذلك لأنه ينعقد من هذين الجزأين مبتدأ وخبر لو قلت : «من ذريتي إمام» لصح ، وقال ابن عطية : وقيل هذا منه على جهة الاستفهام عنهم ، أي : ومن ذريتي يا رب ماذا يكون؟ فيتعلق على هذا بمحذوف ولو قدره قبل «من ذريتي» لكان أولى ، لأن ما في حيز الاستفهام لا يتقدم عليه.
وفي اشتقاق «ذرية» وتصريفها كلام طويل يحتاج الناظر فيه إلى تأمل ، اعلم أن في ذرية ثلاث لغات : ضم الذال وكسرها وفتحها ، وبالضم قرأ الجمهور ، وبالفتح قرأ أبو جعفر المدني ، وبالكسر قرأ زيد بن ثابت (٣) ، فأما اشتقاقها ففيه أربعة مذاهب :
أحدها : أنها مشتقة من ذروت.
الثاني : من ذريت.
__________________
(١) البحر المحيط (١ / ٣٧٦).
(٢) انظر البحر المحيط (١ / ٣٧٧).
(٣) زيد بن ثابت بن الضحاك يكنى أبا سعيد وأحد كتاب الوحي لرسول الله صلىاللهعليهوسلم توفي سنة خمس وأربعين الاستيعاب (٢ / ٥٣٧) ، أسد الغابة (٢ / ٢٧٨).