وحذف الفاعل من قوله : «بما أنزل» وأقيم المفعول مقامه للعلم به ، إذ لا ينزّل الكتب السماوية إلا الله ، أو لتقدّم ذكره في قوله : (بِما أَنْزَلَ اللهُ).
قوله : (بِما وَراءَهُ) متعلّق بيكفرون ، وما موصولة ، والظرف صلتها ، فمتعلّقه فعل ليس إلا. والهاء في «وراءه» تعود على «ما» في قوله : (نُؤْمِنُ بِما أُنْزِلَ). ووراء من الظروف المتوسطة التصرّف ، وهو ظرف مكان ، والمشهور أنه بمعنى خلف وقد يكون بمعنى أمام ، فهو من الأضداد ، وفسّره الفراء هنا بمعنى «سوى» التي بمعنى «غير» ، وفسّره أبو عبيدة وقتادة بمعنى «بعد». وفي همزه قولان :
أحدهما : أنه أصل بنفسه وإليه ذهب ابن جني مستدلّا بثبوتها في التصغير في قولهم : وريئة.
والثاني : أنها من ياء لقولهم : تواريت قاله أبو البقاء ، وفيه نظر. ولا يجوز أن تكون الهمزة بدلا من واو لأنّ ما فاؤه واو لا تكون لامه واوا إلا ندورا نحو «واو» اسم حرف الهجاء ، وحكمه حكم قبل وبعد في كونه إذا أضيف أعرب ، وإذا قطع بني على الضم وأنشد الأخفش على ذلك قول الشاعر :
٦١٨ ـ إذا أنا لم أومن عليك ولم يكن |
|
لقاؤك إلا من وراء وراء (١) |
وفي الحديث عن إبراهيم صلىاللهعليهوسلم : «كنت خليلا من وراء وراء» (٢) ، وثبوت الهاء في مصغّرها شاذّ ، لأن ما زاد من المؤنث على ثلاثة لا تثبت الهاء في مصغّره إلا في لفظتين شذّتا وهما : وريئة وقديديمة : تصغير : وراء وقدّام. قال ابن عصفور : «لأنّهما لم يتصرّفا فلو لم يؤنّثا في التصغير لتوهّم تذكيرهما».
قوله : (وَهُوَ الْحَقُ) مبتدأ وخبر ، والجملة في محلّ نصب على الحال والعامل فيها قوله : «ويكفرون» وصاحبها فاعل يكفرون. وأجاز أبو البقاء أن يكون العامل الاستقرار الذي في قوله «بما وراءه» أي : بالذي استقر وراءه وهو الحقّ.
قوله : (مُصَدِّقاً) حال مؤكّدة لأنّ قوله «وهو الحقّ» قد تضمّن معناها والحال المؤكّدة : إمّا أن تؤكّد عاملها نحو : (وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ) ، وإمّا أن تؤكّد مضمون جملة. فإن كان الثاني التزم إضمار عاملها وتأخيرها عن الجملة ، ومثله ما أنشد سيبويه :
٦١٩ ـ أنا ابن دارة معروفا بها نسبي |
|
وهل بدارة يا للنّاس من عار (٣) |
والتقدير : وهو الحقّ أحقّه مصدقا ، وابن دارة أعرف معروفا ، هذا تقرير كلام النحويين. وأمّا أبو البقاء فإنه قال : «مصدقا حال مؤكّدة ، والعامل فيها ما في «الحقّ» من معنى الفعل إذ المعنى : وهو ثابت مصدّقا ، وصاحب الحال الضمير المستتر في «الحقّ» عند قوم ، وعند آخرين صاحب الحال ضمير دلّ عليه الكلام ، و «الحقّ»
__________________
(١) البيت لعتي بن مالك انظر شرح المفصل لابن يعيش (٤ / ٨٧) ، الهمع (١ / ١٢٠) ، الشذور (١٠٣) ، الدرر (١ / ١٧٧) ، اللسان «ورى».
(٢) أخرجه مسلم (١ / ١٨٧) ، في كتاب الإيمان (٣٢٩ / ١٩٥) ، قال الإمام النووي : قد أفادني هذا الحرف الشيخ الإمام أبو عبد الله محمد بن أمية أدام الله نعمه عليه وقال : الفتح صحيح. وتكون الكلمة مؤكدة كشذر مذر وشفر بفر وسقطوا بين بين. فركبهما وبناهما على الفتح.
(٣) البيت لسالم بن دارة ، انظر الكتاب (١ / ٢٥٧) ، الخصائص (٢ / ٢٦٨) ، الأشموني (٢ / ١٨٥) ، الدرر (١ / ٢٠٢) ، الشذور (٢٤٧).