قوله تعالى : (وَقالُوا لَوْ لا نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ)(١) (لَنَزَّلْنا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّماءِ مَلَكاً رَسُولاً)(٢) إلا بتأويل بعيد جدا ، إذ ليس المعنى على أنهم اقترحوا تكرير نزول آية ، ولا أنه علّق تكرير نزول ملك رسول على تقدير كون ملائكة في الأرض.
وفي قوله : «نزّلنا» التفات من الغيبة إلى التكلّم لأنّ قبله : (اعْبُدُوا رَبَّكُمُ) ، فلو جاء الكلام عليه لقيل : مّما نزّل على عبده ، ولكنه التفت للتفخيم ، و «على عبدنا» متعلّق بنزّلنا ، وعدّي ب «على» لإفادتها الاستعلاء ، كأنّ المنزّل تمكّن من المنزول عليه ولبسه ، ولهذا جاء أكثر القرآن بالتعدّي بها ، دون «إلى» ، فإنها تفيد الانتهاء والوصول فقط ، والإضافة في «عبدنا» تفيد التشريف كقوله :
٢٧٢ ـ يا قوم قلبي عند زهراء |
|
يعرفه السامع والرائي (٣) |
لا تدعني إلّا بيا عبدها |
|
فإنه أشرف أسمائي |
وقرئ (٤) : «عبادنا» ، فقيل : المراد النبيّ عليهالسلام وأمته ، لأنّ جدوى المنزّل حاصل لهم. وقيل : المراد بهم جميع الأنبياء عليهمالسلام.
قوله تعالى : (فَأْتُوا) جواب الشرط ، والفاء هنا واجبة لأنّ ما بعدها لا يصحّ أن يكون شرطا بنفسه ، وأصل فأتوا : اإتيوا مثل : اضربوا فالهمزة الأولى همزة وصل أتي بها للابتداء بالساكن ، والثانية فاء الكلمة ، اجتمع همزتان ، وجب قلب ثانيهما ياء على حدّ «إيمان» وبابه ، واستثقلت الضمة على الياء التي هي لام الكلمة فقدّرت ، فسكنت الياء وبعدها واو الضمير ساكنة فحذفت الياء لالتقاء الساكنين ، وضمّت التاء للتجانس فوزن ايتوا : افعوا ، وهذه الهمزة إنما يحتاج إليها ابتداء ، أمّا في الدّرج فإنه يستغنى عنها وتعود الهمزة التي هي فاء الكلمة لأنها إنما قلبت ياء للكسر الذي كان قبلها ، وقد زال نحو : «فأتوا» وبابه وقد تحذف الهمزة التي هي فاء الكلمة في الأمر كقوله :
٢٧٣ ـ فإن نحن لم ننهض لكم فنبرّكم |
|
فتونا فعادونا إذا بالجرائم (٥) |
يريد : فأتونا كقوله : فأتوا. وبسورة متعلق ب «أتوا».
قوله تعالى : (مِنْ مِثْلِهِ) في الهاء ثلاثة أقوال :
أحدها : أنها تعود على ما نزّلنا ، فيكون من مثله صفة لسورة ، ويتعلّق بمحذوف على ما تقرّر ، أي : بسورة كائنة من مثل المنزّل في فصاحته وإخباره بالغيوب وغير ذلك ، ويكون معنى «من» التبعيض ، وأجاز ابن عطية والمهدوي أن تكون للبيان ، وأجازا هما وأبو البقاء أن تكون زائدة ، ولا تجيء إلا على قول الأخفش.
الثاني : أنها تعود على «عبدنا» فيتعلّق «من مثله» بأتوا ، ويكون معنى «من» ابتداء الغاية ، ويجوز على هذا الوجه أيضا أن تكون صفة لسورة ، أي : بسورة كائنة من رجل مثل عبدنا.
الثالث : قال أبو البقاء : «إنها تعود على الأنداد بلفظ المفرد كقوله : (وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعامِ لَعِبْرَةً ، نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ)(٦) قلت : ولا حاجة تدعو إلى ذلك ، والمعنى يأباه أيضا».
__________________
(١) سورة الأنعام ، آية (٣٧).
(٢) سورة الإسراء ، آية (٩٥).
(٣) البيتان من شواهد البحر (١ / ١٠٤) ، القرطبي (١ / ١٦١) ، روح المعاني (١ / ١٩٣).
(٤) انظر البحر المحيط (١ / ١٠٤).
(٥) البيت من شواهد البحر (١ / ١٠١) ، وانظر ضرائر الشعر ص (١٠٠).
(٦) سورة النحل ، آية (٦٦).