ويكون على أنواع شتى : منه ما يكون مكالمة بين العبد وربه ، كما كلّم الله موسى تكليما. ومنه ما يكون إلهاما يقذفه الله في قلب مصطفاه على وجه من العلم الضرورى لا يستطيع له دفعا ، ولا يجد فيه شكّا. ومنه ما يكون مناما صادقا يجيء في تحقّقه ووقوعه ، كما يجيء فلق الصبح في تبلّجه وسطوعه. ومنه ما يكون بوساطة أمين الوحى جبريل عليهالسلام : وهو ملك كريم ذو قوّة عند ذى العرش مكين ، مطاع ثمّ أمين. وذلك النوع هو أشهر الأنواع وأكثرها. ووحى القرآن كله من هذا القبيل ، وهو المصطلح عليه بالوحى الجلىّ. قال الله تعالى في سورة الشعراء : (نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ ، عَلى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ ، بِلِسانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ).
ثم إن ملك الوحى يهبط هو الآخر على أساليب شتّى : فتارة يظهر الرسول في صورته الحقيقيّة الملكية. وتارة يظهر في صورة إنسان يراه الحاضرون ويستمعون إليه. وتارة يهبط على الرسول خفية فلا يرى ، ولكن يظهر أثر التغيّر والانفعال على صاحب الرسالة فيغطّ غطيط النائم ، ويغيب غيبة كأنها غشية أو إغماء ، وما هى فى شىء من الغشية والاغماء ، إن هى إلا استغراق في لقاء الملك الروحانى ، وانخلاع عن حالته البشرية العادية ، فيؤثّر ذلك على الجسم ، فيغطّ ويثقل ثقلا شديدا ، قد يتصبّب منه الجبين عرقا في اليوم الشديد البرد. وقد يكون وقع الوحى على الرسول كوقع الجرس إذا صلصل في أذن سامعه ، وذلك أشدّ أنواعه. وربما سمع الحاضرون صوتا عند وجه الرسول كأنه دوىّ النحل ، لكنهم لا يفهمون كلاما ، ولا يفقهون حديثا. أما هو ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ فإنه يسمع ويعى ما يوحى إليه ، ويعلم علما ضروريّا أنّ هذا هو وحى الله دون لبس ولا خفاء ، ومن غير شك ولا ارتياب ، فإذا انجلى عنه الوحى وجد ما أوحى إليه حاضرا في ذاكرته ، منتقشا في حافظته ، كأنما كتب في قلبه كتابة.