وأما على أن المراد بالقرآن اللفظ المعجز ، فمعنى إنزاله الإعلام به أيضا ، ولكن بوساطة إثباته هو أو إثبات دالّه ، فإثباته هو بالنسبة لإنزاله على قلب النبى صلىاللهعليهوسلم ، وإثبات دالّه بالنسبة إلى اللوح المحفوظ وبيت العزة ، والعلاقة اللزوم كذلك ، والمجاز مرسل كسابقه.
ويمكن أن يكون هذا التجوّز من قبيل الاستعارة التصريحية الأصلية ، بأن يشبّه إعلام السيد لعبده بإنزال الشيء من علو إلى سفل ، بجامع أن فى كل من طرفى التشبيه صدورا من جانب أعلى إلى جانب أسفل ، وإن كان العلو والسفل في وجه الشبه حسيا بالنسبة إلى المشبه به ، ومعنويا بالنسبة إلى المشبه.
وأنت خبير بأن النزول مطاوع الإنزال ، فما يجرى من التجوّز في أحدهما يجرى نظيره في الآخر. وقل مثل ذلك في التنزيل والتنزل.
وكأن وجه اختيار التعبير بمادة الإنزال وما تصرّف منها أو التقى معها ، هو التنويه بشرف ذلك الكتاب ، نظرا إلى ما تشير إليه هذه المادة من علوّ صاحب هذا الكتاب المنزل علوا كبيرا ، كما قال تعالى في فاتحة سورة الزخرف : (والكتاب المبين ، إنّا جعلناه قرآنا عربيّا لعلّكم تعقلون ، وإنّه في أمّ الكتاب لدينا لعلىّ حكيم).
ثم إن تأويل الإنزال بالإعلام على ما رأيت هو الأقرب والأوفق بالمقام ، وذلك من وجوه ثلاثة :
أحدها : أن تعلق الكلام تعلق دلالة وإفهام ، ولا ريب أن القرآن كلام ، فتأويل إنزاله بالإعلام ، رجوع إلى ما هو معلوم من تعلّقه ، ومفهوم من تحقّقه.
ثانيها : أن المقصود من ثبوت القرآن في اللوح وفي سماء الدنيا وفي قلب النبى صلىاللهعليهوسلم ، هو إعلام الخلق في العالمين العلوى والسفلى بما شاء الله دلالة البشر عليه من هذا الحق.