(فَحَمَلَتْهُ فَانْتَبَذَتْ بِهِ مَكاناً قَصِيًّا. فَأَجاءَهَا الْمَخاضُ إِلى جِذْعِ النَّخْلَةِ قالَتْ يا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هذا وَكُنْتُ نَسْياً مَنْسِيًّا. فَناداها مِنْ تَحْتِها أَلَّا تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا. وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُساقِطْ عَلَيْكِ رُطَباً جَنِيًّا. فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْناً. فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَداً فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمنِ صَوْماً فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا. فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَها تَحْمِلُهُ. قالُوا يا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئاً فَرِيًّا ...)
(فَأَشارَتْ إِلَيْهِ. قالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا. قالَ إِنِّي عَبْدُ اللهِ ...). (١)
يبدو من هذه الآيات أنّ مريم اختارت لعبادتها أرضا غير آهلة بعيدة عن مساكن أهلها لتختلي بعبادة ربّها دون أعين الناظرين. وفي هذا الدور جاءها ملاك الربّ ليبشّرها بالمسيح. ولمّا حملت به أخذت تبتعد أكثر خوف الفضيحة. وكان هناك (في المكان القصيّ) نخل ومعين ماء ، فوضعت حملها هناك بعيدا عن الناس كافّة. وأمرها الملاك أن لا تتكلّم مع أحد يمرّ عليها أو تمرّ عليه بحجّة أنّها صائمة صوم صمت. فكانت مختلية بنفسها وولدها يعيشان في هدوء وفراغة بال. بعيدا عن هرج العامّة. (وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً. وَآوَيْناهُما إِلى رَبْوَةٍ ذاتِ قَرارٍ وَمَعِينٍ). (٢)
وكم عاشا هناك في خلأ من الناس؟
يبدو أنها لم تعش هناك سوى سنتين أو ثلاث ، لأنّها حين رجعت إلى قومها كانت تحمل طفلها ، ولا بدّ أنّ الطفل عند ما يبلغ مثل هذا السنّ قادر على التكلّم ، وليس ذلك بغريب. أمّا قولهم : (كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا) فلعلّه من جهة أنّهم استغربوا أنّها جاءت بولد وهي غير متزوّجة ، فلا بدّ أنّها هي المجيبة على ذلك ، وليس الطفل ـ الذي هو نتاج الحمل ـ بمسئول ولا قادر على حلّ الإشكال. فالطفل غير عارف بسبب هذا الإنتاج ، فلا معنى للسؤال منه!
لكنّهم عند ما واجهوا كلام المسيح في رزانة وتعقّل متين ، عرفوا أنّ ذلك آية من آيات الله ، فلا موضع للاستغراب!
__________________
(١) مريم ١٩ : ١٦ ـ ٣٠.
(٢) المؤمنون ٢٣ : ٥٠.