المدن والقرى ، فينالهم من أذاه أكثر ممّا ينالون من نفعه. فساقتهم الحاجة إلى استنباط الحيلة في اختزان المياه ورفعه إلى مستوى الهضبات وتوزيعه على قدر الحاجة. فاختار السبأيّون المضيق بين جبلي «بلق» وبنوا في عرضه سورا عظيما عرف بسدّ مأرب أو سدّ العرم ، لريّ ما يجاور مدينتهم (مأرب) من السهول والهضبات.
والجبلان المذكوران ، بعد أن يتقاربا عند مضيق بلق ، ينفرجان ويتّسع الوادي بينهما ، وعلى ثلاث ساعات منهما نحو الشمال الشرقي من مدينة مأرب أو سبأ ، في الجانب الغربي أو الأيسر من وادي أذنة. فإذا جرى السيل حاذى بابها الشرقي ، وبين المضيق والمدينة متّسع من الأرض تبلغ مساحة ما يحيط به من سفوح الجبال نحو (٣٠٠) ميل مربّع ، كانت جرداء قاحلة ، فأصبحت بعد تدبير وإلجام المياه بالسدّ ، غياضا وبساتين على سفحي الجبلين ، وهي المعبّر عنها بالجنّتين بالشمال واليمين أو بالجنّة اليمنى والجنّة اليسرى ، على ما جاءت الإشارة إليه في القرآن.
والسدّ المشار إليه عبارة عن حائط ضخم أقاموه في عرض الوادي ، على نحو (١٥٠) ذراعا نحو الشمال الشرقي من المضيق ، سمّوه «العرم». وهو سدّ أصمّ طوله من الشرق إلى الغرب نحو (٨٠٠) ذراع ، وعلوه بضعة عشر ذراعا ، وعرضه (١٥٠) ذراعا ، لا يزال ثلثه الغربي أو الأيمن باقيا إلى اليوم.
ويظهر ممّا شاهدوه في جزئه الباقي أنّه مبنيّ من التراب والحجارة ينتهي أعلاه بسطحين مائلين على زاوية منفرجة ، تكسوهما طبقة من الحصى كالرصيف يمنع انجراف التراب عند تدفّق المياه.
فالعرم يقف في طريق السيل كالجبل المستعرض ويصدّه عن الجري ، فتجتمع مياهه وترتفع ارتفاعا عاليا يفي بريّ المرتفعات.
وقد جعلوا طرفي السدّ عند الجبلين أبنية من حجارة ضخمة متينة ، فيها منافذ ينصرف منها الماء إلى إحدى الجنّتين اليمنى أو اليسرى.
فأنشئوا عند قاعدة الجبل الأيمن بناءين بشكل المخروط المقطوع ، علوّ كلّ منهما