ومنه قوله تعالى ـ حكاية عن فرعون ـ : (وَما رَبُّ الْعالَمِينَ). (١) وذلك لمّا دعاه موسى عليهالسلام إلى شريعته وقال : (إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعالَمِينَ). (٢) عاد عليه فرعون وسأله عن سمات هذا الربّ والتي جعلته ربّا للعالمين ، ولم يسأله عن ذاته المقدّسة وعن اسمه الخاصّ. وإلّا لكان حقّ الجواب أن يقول موسى عليهالسلام : الله ، بل أجابه بقوله : (رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُمَا ... رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ ... رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَما بَيْنَهُما)(٣) وفيه تعريض بفرعون ، حيث ادّعى الربوبيّة ، لأنّ له ملك مصر ، وأنّ أنهارها تجري من تحته. (٤) فهو يملك ـ فيما زعم ـ رقعة من الأرض وليست كلّها وفي مقطع من الزمان لا في كلّ الأزمان ، ولاناس معدودين وليس كلّ الخلائق من الأوّلين والآخرين.
والخلاصة : إنّ التعبير ب «ما» عن الشيء قد يكون تعريفا بعين ذاته ، فهذا ما يغلب استعماله في غير ذوي العقول. وقد يكون تعريفا بصفاته وعناوينه التي كوّنت شخصيّته الخاصّة ، فهذا يعمّ ويغلب استعماله في العقلاء أيضا. وقد جاءت تعابير القرآن على هذا النمط ، وجاريا على أساليب كلام العرب الفصيح.
وعليه ، فكان قوله تعالى : (فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ)(٥) تعبيرا عن الطيّبات من النساء ، أي فانكحوا الطيّب من النساء. قال مكّيّ بن أبي طالب : أي فانكحوا الطيّب أي الحلال. و «ما» تقع لما لا يعقل ، ولنعوت ما يعقل ، ولذلك وقعت هنا لنعت ما يعقل. (٦)
وكذا قال ـ في قوله تعالى : (وَما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ)(٧) ـ : وقعت «ما» لمن يعقل ، لأنّ المراد بها صفة من يعقل. قال : و «ما» يسأل بها عمّا لا يعقل وعن صفات من يعقل. (٨)
قال الفرّاء : (ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ) يريد : أو ملك أيمانكم. (٩)
__________________
(١) الشعراء ٢٦ : ٢٣.
(٢) الشعراء ٢٦ : ١٦.
(٣) الشعراء ٢٦ : ٢٤ ـ ٢٨.
(٤) إشارة إلى قوله تعالى : (وَنادى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قالَ يا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهذِهِ الْأَنْهارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلا تُبْصِرُونَ). الزخرف ٤٣ : ٥١.
(٥) النساء ٤ : ٣.
(٦) مشكل إعراب القرآن لمكي بن أبي طالب ، ج ١ ، ص ١٨٩.
(٧) النساء ٤ : ٣٦.
(٨) المصدر : ص ١٩٥.
(٩) معاني القرآن ، ج ١ ، ص ٢٥٤.