وقالوا في قوله تعالى : (وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خالِدِينَ فِيها ما دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا ما شاءَ رَبُّكَ عَطاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ) : (١) استثناؤه المشيئة من الخلود يدلّ على الزوال ، وإلّا فلا معنى للاستثناء. ثم قال : (عَطاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ) أي غير مقطوع!
وقوله : (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ)(٢) أي غير مقطوع ومن غير أذى ، فكيف التوفيق؟!
قال ابن قتيبة في الإجابة على ذلك : إنّ للعرب في معنى «الأبد» ألفاظا يستعملونها في كلامهم ، يقولون : لا أفعل ذلك ما اختلف الليل والنهار ، وما طمى البحر أي ارتفع ماؤه وامتلأ ، وما أقام الجبل ، وما دامت السماوات والأرض ، في أشباه لهذا كثيرة ، يريدون : لا أفعله أبدا ؛ لأنّ هذه المعاني عندهم لا تتغيّر عن أحوالها أبدا ، فخاطبهم الله بما يستعملونه ، فقال : (خالِدِينَ فِيها ما دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ) أي مقدار دوامهما ، وذلك مدّة العالم.
وللسماء والأرض وقت يتغيّران فيه عن هيئتهما ، يقول الله تعالى : (يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّماواتُ). (٣) ويقول : (يَوْمَ نَطْوِي السَّماءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ). (٤)
أراد أنّهم خالدون فيها مدّة العالم ، سوى ما شاء الله أن يزيدهم من الخلود على مدّة العالم. و «إلّا» في هذا الموضع بمعنى «سوى». ومثله في الكلام : لأسكننّ في هذه الدار حولا إلّا ما شئت ، تريد : سوى ما شئت أن أزيد على الحول.
قال : هذا وجه. ووجه آخر ، وهو : أن يجعل دوام السماء والأرض بمعنى الأبد ، على ما تعرف العرب وتستعمل ، وإن كانتا قد تتغيّران. وتستثنى المشيئة من دوامهما ؛ لأنّ أهل الجنّة وأهل النار قد كانوا في وقت من أوقات دوام السماء والأرض في الدنيا ، لا في الجنّة. فكأنّه قال : خالدين في الجنّة وخالدين في النار دوام السماء والأرض ، إلّا ما شاء ربّك من تعميرهم في الدنيا قبل ذلك.
__________________
(١) هود ١١ : ١٠٨.
(٢) فصّلت ٤١ : ٨.
(٣) إبراهيم ١٤ : ٤٨.
(٤) الأنبياء ٢١ : ١٠٤.