والكلب إما أن تطرده قبل أن تأكل وإمّا أن تشغله بشيء يأكله ولو بعظم يطرح له.
قال : ورأيت بعض الحكماء وقد سقطت من يده لقمة ، فرفع رأسه فإذا عين غلام تحدّق نحو لقمته ، وهو يزدرد ريقه لتحلّب فمه من الشهوة ، وكان ذلك الحكيم جيّد اللقم طيّب الطعام ، ويضيّق على غلمانه.
وقالت الحكماء : إنّ نفوس السباع وأعينها في هذا الباب أردأ وأخبث لفرط شرهها وشرّها. قال الجاحظ : بين هذا المعنى وبين قولهم في إصابة العين الشيء العجيب المستحسن شركة وقرابة. ذلك أنّهم قالوا : قد رأينا أناسا ينسب إليهم ذلك ، ورأيناهم وفيهم من إصابة العين مقدار من العدد ، لا نستطيع أن نجعل ذلك النسق من باب الاتفاق. وليس إلى ردّ الخبر «العين حقّ» سبيل ، لتواتره وترادفه. ولأنّ العيان قد حقّقه والتجربة قد ضمّت إليه.
قالوا : ولو لا فاصل ينفصل من عين الرائي المعجب إلى الشيء المعجب به ـ حتّى يكون ذلك الداخل عليه هو الناقض لقواه ـ لما جاز أن يلقى المصاب بالعين مكروها من قبل العائن ، من غير تماسّ ولا تصادم ولا رابط يربط أحدهما بالآخر.
قال الأصمعي : رأيت رجلا عيونا (الشديد الإصابة بالعين) كان يذكر عن نفسه أنّه إذا أعجبه الشيء وجد حرارة تخرج من عينه. (١)
وأضاف الجاحظ ـ ردّا على من زعم أن الاعتراف بصحّة إصابة العين ينافي التوحيد ـ : أنّ الاعتراف بالطبائع اعتراف بسنّة الله الجارية في الخلق والتدبير ، وليس أمرا خارجا عن طوع إرادته تعالى. قال : ومن زعم أنّ التوحيد لا يصحّ إلّا بإبطال حقائق الطبائع فقد حمل عجزه على الكلام في التوحيد. وإنّما يأنس منك الملحد إذا لم يدعك التوفّر على التوحيد إلى بخس حقوق الطبائع ، لأنّ في رفع أعمالها رفع أعيانها. وإذا كانت الأعيان هي الدالّة على الله فرفعت الدليل فقد أبطلت المدلول عليه. (٢)
__________________
(١) الحيوان للجاحظ ، ج ٢ ، ص ٢٦٤ ـ ٢٦٩ ، تحقيق يحيى الشامى ، مع بعض التعديل حسب نقل ابن أبي الحديد في شرح النهج ، ج ١٩ ، ص ٣٧٦ ـ ٣٧٧.
(٢) المصدر : ص ٢٦٦.