الزيارة السادسة
وقعت هذه الزيارة في جمادى الآخر من سنة إحدى ومائة وألف.
خرجت من السفينة يوم الأربعاء بعد العصر ، فوصلت إلى دار حضرة الشيخ قريبا من المغرب فلما صليت المغرب في الغرفة التحتانية أقبل حضرة الشيخ ، وجامل في المعاملة ، وسأل عن السفر وحال البحر ؛ فقلت : بهمتكم العلية دخلت السفينة وقت الضحى ، وخرجت بعد العصر من هذا اليوم ، فاستبشر ثم سأل عن التنور الذي كان قد أرسله من صوفيا في دفع تكاليف داري في بروسة ، فقلت : قد وصل ، فقال : هل كان معمولا به؟ فقلت : نعم ، استبشر به أهل المدينة كلهم فضلا عن أهالي المحلة ، ثم أقبل إلى خليفة بودانية المسمى ب «قرة مصطفى أفندي» وكان رفيقي في هذا السفر ، فسألت عن حاله ثم ذهب إلى حرمه.
ولما كان يوم الخميس دعاني بعد الإشراق إلى غرفته ، فقبلت ركبته ، فأشار إلى بالجلوس إلى جنبه ، فكان أول كلامه : دينك غالب أم دنياك؟ فقلت : بل دنياي ؛ فقال : جعل الله دينك غالبا على دنياك ، وسأل عن صيامي وقيامي ؛ فقلت : صومي صوم الدهر إلا أن يقع الإفطار بعذر ، وقيامي دائم إلا إذا ضعف البدن يمنعني من طول السهر ، فقال : «أحب الأعمال إلى الله تعالى أدومها (١)».
فإذا كنت أدمت هذا ، فقد حصل المقصود ، ثم سأل عن أحوال الدرس والوعظ.
فقلت : قد رفعت الدرس من قدومي إلى بروسة فهو من عنايتكم الكبرى ؛ لأنه غسل التعلق بالعلم الظاهر عن لوح الخاطر ، وازداد التوجه إلى تلاوة آيات التوحيد مع أن الوجود ليس الوجود الأول ، فقد ضعفت الأركان والقوى.
وأما الوعظ فقد تركته مقدار شهرين لأختبر تعلق نفسي به ، فلم أجد الميل إليه والحمد لله ، فاستبشر حضرة الشيخ وحمد الله ، ثم قال : كيف تجدك؟
فقلت : أجد نفسي ألا تعلق لها لا بالخانقاه ولا بالوظائف ولا بالصوفية والأحباب ، ولكني أبكي دما من أخلاق النفس ، فقال : إصلاح الأخلاق مما يتعلق بالباطن وهو صعب جدّا ، ثم أنجز الكلام إلى ذكر أهل البيت.
فقلت : شكايتي منهما كلية عظيمة ، وإنما أشتكي إليكم لا إلى الغير ، فقال :
__________________
(١) رواه أحمد في مسنده (٦ / ٢٦٧) ، وأبو نعيم في المسند المستخرج على مسلم (٢ / ٣٧٥).