فظهر أن الشهود : شهود في الدنيا بالبصيرة ، وشهود في الآخرة بالبصر ، والثاني مبني على الأول ، وكذا الأول مبني على المعرفة الإلهية (١).
ولذا قالوا : ألذّ الأشياء ؛ معرفة الله تعالى مع أن ألذّ الأشياء هو مشاهدة الجمال ، وحالة الوصال لما ان ذلك موقوف على المعرفة (٢).
__________________
(١) اعلم أن المشهود المحقق يقضي على المشاهد بالشهادة على المشهود ؛ أنه من كونه مشهودا بشهود محقق واحد ؛ لكن هذه الشهادة شهادة حالية لا تعقّلية ؛ إذ لا تعقّل في الشهود ولا تميز ، وحصول هذا المشهود المحقّق مشروط بتوحّد المشاهد من حيث توجّهه ، واستهلاك كثرته في وحدته الأولى ، فإن الأولية في كل شيء هي الوحدة ، والكثرة متعلّقة في الرتبة الثانية.
ثم إن للمشاهد المحقق بعد التحقق بالمشهود المذكور والاتصال بالوحدة المشار إليها عودة ثانية من تلك الوحدة على مرتبة العلم الذي هو ثمرة ذلك المشهود من وجه ، وفي هذه المرتبة العلمية تذكر نفسه ، والتمييز المحكوم بثبوته في نفس الأمر القاضي بالتعدّد ؛ إذ المشهود لا يقضي بتعدّد ولا يبقى للمشاهد ما يدرك نفسه أو غيره.
وإذا عرفت هذا وفهمته عرفت معنى قولي : التوحيد صفة الشهود ، والتمييز من حكم العلم ، وعرفت أن الحق سبحانه بأي اعتبار يقال فيه أن علمه عين ذاته ، وبأي اعتبار يضاف عليه العلم في المرتبة الثانية من الذات الموصوفة بالأحدية ، فافهم والمرشد الله.
(٢) قال الشيخ الأكبر قدسسره : (المعرفة محض الإيمان ، ومشاهدة الإحسان) أي : المعرفة التي هي صفة للعارف باسم الله أحدية جمع الأسماء كلها الذي هو صاحب القلب الحاصل من رحمة الله ورأفته ولطفه في اصطلاح هذه الطائفة ؛ لأن تعينات الأشياء في العلم بالفيض الأقدس ووجوداتها بالفيض المقدس وكلاهما من الأسماء اللطفية الجمالية ، فهي محض الإيمان الكامل بالله وصفاته وأفعاله ، ومشاهدة الإحسان الوارد في الحديث النبوي حيث قال صلىاللهعليهوسلم : «الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك» ، ومشاهدة أن يكون هذا عيانا له لا علما واعتقادا ، أو محض الإيمان بمعنى الإيمان المحض أي الخالص المنزه عن الشرك الخفي بأن لا يكون داخلا في الذين تصدق عليهم الآية : (وَما يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ) [يوسف : ١٦٠] ، وهو إيمان أهل القلوب الذين يعرفون بتقلب الحق في الصور بالتحول إليها ، فلا ينكرونه في صورة من الصور ، وأهل القلوب هم الذين يؤمنون بالله وحده ؛ لأنه الغيب عندهم والبواقي من أركان الإيمان من الملائكة والكتب والرسل واليوم الآخر والقدر خيره وشره ليست مما أمنوا به ؛ لأن المؤمن به يجب أن يكون غائبا والمذكورات غير غائبة عنهم ؛ لأنهم يشاهدونها عيانا فافهم ، المؤمنون حقا