فإن اللسان واليد عبارة عن الأعضاء كلها ، وإنما خصّا بالذكر ؛ لأن الأقوال كلها تصدر من اللسان ، وأكثر الأفعال من اليد ، وقوله في بعض الحديث «إنما هي حصائد ألسنتكم (١)» ؛ يشير إلى عظم جرائم اللسان ؛ فكأنها كل الجرائم ، وإنها لا تصدر إلا منه.
وإنما حملنا الإسلام على الانقياد والظاهر ؛ لأنه هو الموافق لما ذكره أهل اللغة ، ولما جاء في القرآن من قوله : (وَظِلالُهُمْ) [الرعد : ١٥].
وقوله : (وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّماواتِ ..) الآية [آل عمران : ٨٣].
فإن سجدة الظلال إنما هي سجدة الكره لا سجدة الطوع ، فإن سجدة الطوع إنما تكون بالإيمان ، وليس للكفار ذلك ، وجاء في حق الحق تعالى الاسم السّلام دون المسلم ، وإن كان المعنى صحيحا لقول أبي طالب في شأنه صلىاللهعليهوسلم : ما أطوعك ربك يا محمد؟ يعني : إنه ينقاد لك ، ويطيعك فيما تقصده من الأمور الظاهرة.
بخلاف المؤمن فإنه من أسماء الحسنى ، فكان المؤمن أقوى من المسلم ؛ لأن كل انقياد باطن يستلزم الانقياد الظاهر دون العكس ؛ ولذا قلّ المؤمنون بين المسلمين ؛ لأن المؤمن هو الذي آمن الناس من قلبه ولسانه ويده جميعا ، فالمؤمن الحقيقي لا يقصد السوء لأحد ، ولا يتعرّض له بشيء من المكروه إلا بحق الشرع وحده.
وممن قام بهذا المقام حضرة الشيخ : محيي الدين العربي قدسسره فإنه كان في أوائل حاله بحيث تركض دابته في الصحاري ، ويمسّ رأس سنانه بعض الوحش الراعية في المرعى ، وهو لا يرفع رأسه أصلا ؛ لأنه يعلم بحسب فطرته : إن الشيخ آمنه من قلبه.
وحال القلب يؤثّر في القالب ، فيكون القالب سالما من الأذى ، وصاحبه أمنا في نفسه ، ولا يصل العبد إلى مرتبة التسخير إلا بمثل هذا الوصف ، فأنّى يكون مؤمنا من يخيف ، وشر الناس من تبقّى الناس من شره ، فكان من شأنه أن يبتليه الله بالفزع الأكبر يوم القيامة ؛ لأن من لم يخف الله ، وأخال عباده أيضا ؛ جوزي بمثل عمله ، فإن
__________________
(١) رواه الترمذي (٥ / ١١) ، والنسائي (٦ / ٤٢٨) بنحوه.