لأنّ دليل التخيير إن كان الأخبار الدالّة عليه ، فالظاهر أنّها مسوقة لبيان وظيفة المتحيّر في ابتداء الأمر ، فلا إطلاق فيها بالنسبة إلى حال المتحيّر بعد الالتزام بأحدهما. وأمّا العقل الحاكم بعدم جواز طرح كليهما فهو ساكت من هذه الجهة أيضا ، والأصل عدم حجّية الآخر له بعد الالتزام بأحدهما ، كما تقرّر في دليل عدم جواز العدول عن فتوى مجتهد إلى مثله.
______________________________________________________
الرجوع إلى الأصل الموافق لأحدهما ، وأمّا مع الإغماض عنه ، بدعوى صحّة تزاحم الطريقين ، وعدم خروجهما بذلك من وصف الطريقيّة ، وتسليم حكم العقل بالتخيير حينئذ مع عدم رجحان أحد الدليلين على الآخر ، فلا ريب أنّ مناط هذا الحكم العقلي ـ وهو تزاحم الطريقين ، وعدم رجحان إحداهما على الاخرى ـ باق بعد الأخذ بإحداهما أيضا ، إذ مجرّد الأخذ بإحداهما لا يوجب قوّة في طريقيّة المأخوذ منهما عند العقل حتّى ترجّح بذلك على صاحبها ، ويسقط العقل عن الحكم بالتخيير في الوقائع المتأخّرة. ولعلّه إلى هذا أشار المصنّف رحمهالله بالتأمّل.
وأمّا الثالث فبمنع جريان الاستصحاب في الأحكام العقليّة ، لأنّ التحيّر الذي هو موضوع حكم العقل بالتخيير إن كان باقيا بعد الأخذ بأحد المتعارضين ، فالعقل يستقلّ بحكمه على نحو ما كان مستقلّا به قبله ، وإن لم يكن باقيا فلا معنى لاستصحاب الحكم بالتخيير ، لارتفاع موضوعه. مضافا إلى أنّ التخيير إنّما كان ثابتا للمتحيّر الذي كان عالما بعدم تعيّن أحد الدليلين عليه ، ولم يعلم بقاء هذا الموضوع إلى زمان الأخذ بأحدهما ، لاحتمال تعيّن المأخوذ عليه بعد الأخذ به. وإلى هذا أشار المصنّف رحمهالله بقوله : «لأنّ الثابت سابقا ...».
وإذا عرفت بطلان أدلّة القول باستمرار التخيير ثبت القول بكون التخيير بدويّا ، لأنّه المتيقّن ، مضافا إلى قاعدة الاشتغال فيما دار الأمر فيه بين التعيين والتخيير ، لما عرفت من احتمال تعيّن المأخوذ بعد الأخذ به.