الأرواح ، وإلى الكفر الحاصل بعد الإيمان في تلك المرتبة ؛ يعني : إنكم آمنتم يوم الميثاق ؛ ثم كفرتم في الدنيا إلى وقت الخروج منها ، أو آمنتم في ذلك اليوم ، وكذا بعد بلوغ الدعوة في الدنيا ، ثم كفرتم ، واستمرّ ذلك منكم إلى وقت الخروج منها.
والكفر أحبط الإيمان ، كما أن الإيمان جبّ ما قبله ؛ لكن لمّا يعقبه الكفر ؛ لم ينفعه ذلك ، فكان الكفر مستمر غير مجبوب ومقطوع بالإيمان أصلا ، فظهر إن الإيمان الذاتي لا يتغيّر بالعارض ، وكذا الكفر الأصلى ؛ فالإيمان هو الإيمان في علم الله ، وفي بطن الأمم ، وكذا الكفر.
وأمّا الإيمان والكفر في لوح المحو والإثبات ، وفي عين الخارجي ، فلا يعتدّ بهما ، فإن السابقة واللاحقة على حد سواء ، ولمّا كان الإيمان الذاتي لا يغيّره الكفر العارض ؛ لم يقل في جانب الذين ابيضّت وجوههم : أكفرتم بعد إيمانكم ثم آمنتم على تقدير توسّط الكفر ؛ لأن الإيمان يجبّ ما قبله ، وليس على المؤمن توبيخ عليه أبدا ، فوجوههم المعنوية بيضاء في علم الله ، ووجوههم الصورية بيضاء في العين الخارجي سواء كان عالم الأرواح ، أو عالم الأجسام ؛ فهم في رحمة الله أزلا وأبدا.
ووجوه أضّدادهم المعنوية سوداء في العالمين جميعا علما وعينا ؛ فهم في غضب الله أزلا وأبدا على ما يقتضيه المقابلة ؛ لكن لم يجز في الآية الأولى على سنن الآية الثانية ؛ إشارة إلى سرّ دقيق يعرفه من يعرف سرّ قوله تعالى : سبقت رحمتي غضبي (١) ، فالعذاب الذي هو جزاء الكفر مقرر متحقق ، وأهله خالدون في النار ، لابثون فيها أحقابا.
وقال في موضع آخر : في أحد الزهراوين : قال الله سبحانه وتعالى : (يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ) [آل عمران : ١٠٦].
ابيضاض الوجوه ، واسؤادها محمولان على الحقيقة عند أهل الحقيقة ؛ لأن الآخرة عالم الصفة ؛ فلا يظهر فيها إلا ما هو الغالب على الإنسان في هذه النشأة الدنيوية ، وخصّت الوجوه بذلك ؛ لأنها مرآة الحقيقة الإنسانية ، فيظهر سعادته وشقاوته فيها.
__________________
(١) رواه البخاري (٦ / ٢٧٤٥) ، ومسلم (٤ / ٢١٠٨).