وفي سورة النحل
قال الله سبحانه وتعالى : (لِكَيْ لا يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئاً) [النحل : ٧٠].
نكر العلم والشيء ؛ إشارة إلى أن العارف بالله إذا وصل إلى الله ، كان علمه علما واحدا ، هو علمه بالله تعالى ، فهو أجلّ العلوم ، كما أن الله تعالى أجلّ المعلومات يعني : إن أجلّ العلوم هو ما تعلّق بأجلّ المعلومات ، وأمّا ما عده مما تعلّق بغير الله تعالى ؛ فدونه.
فظهر أن علم التصوّف أجلّ العلوم ، ولأنه باحث عن ذات الله تعالى وصفاته ، وأفعاله من طريق الكشف لا من طريق العقل (١) كما عليه أهل الحكمة البحثية
__________________
(١) قال الشيخ القونوي في سر العلم الذاتي وأوليته : اعلم أن لأولية علم الحق الذاتي سرّين :
حكم أحدهما : علمه بنفسه باعتبار وحدته وإطلاقه معا ؛ وإنما قلت معا من أجل أنه ليس في محض الإطلاق علم ولا يتعلق به حكم ولا يتعين له اسم ، ويتعقّل تعين الوحدة له ؛ ينفتح باب مطلق العلم ؛ لكن من حيث ان العلم والعالم والمعلوم واحد. والسر الآخر من السرّين المشار إليهما : هو اعتبار علمه سبحانه بما في نفسه من نفسه ؛ فإنه متأخّر الرتبة عن اعتبار علمه نفسه بنفسه على نحو ما ذكر.
وله أي لهذا السر العلمي الذي قلنا أنه الثاني حكمان :
متعلق أحدهما : علمه سبحانه بما في نفسه من شئونها ، ولوازمها القاضية بظهور العالم من العلم إلى العين ؛ والمقتضية ظهوره أيضا متعددا متنوعا فيها ؛ وما يستلزم ظهوره في كل شان منها بحسبه مما لا ينضاف إليه دونه.
والحكم الآخر متعلقه : علمه سبحانه بما في نفسه من حيث تعقّل كل ظهور من ظهوراته في كل شأن من شئونه ؛ جمعا لا فرادى ، وهذا هو أصل علم الحق بالأعيان الممكنة.
والفرق بين هذين التصورين بين فإن حكم التعقّل الأول يقتضي علم كل شأن مفردا ، وعلم الظهور من حيث ما يخصّ الحق ويضاف إليه ، وهذا التعقّل الآخر متعلقه المجموع ؛ أعني تعقّل نفسه بنفسه في نفسه ، وتعقّل نفسه ظاهرا في كل شأن بحسب الشان ظهورا لم يكن من قبل ، فإن رؤية الشيء نفسه بنفسه في نفسه ليست كرؤية الشيء نفسه بنفسه وبغيره في أمر يكون له ؛ كالمرآة لما يظهر من حكم المرآة في الأمر الذي ينطبع فيها مما لم يمكن ظهوره على ذلك الوجه قبل ذلك الانطباع.
وإذا عرفت هذا فنقول : لمطلق العلم عموم الإدراك لنفس المدرك وما فيها ؛ فمتى أعتبر استجلاء العالم لما في نفسه من شئونه المتعددة القاضية بتعدّد ظهوراته في الأعيان ؛ فهو عبارة عن علم الحق بالعالم