ولذا قال : (وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ) (١) : أي بوقوع الرؤية في الآخرة لا في الدنيا ، وبالبصيرة لا بالبصر.
فإن البصر قيد ؛ والقيد لا يزول ، لقوة العناصر والأركان ، وأنا محمد صلىاللهعليهوسلم ، فبصره ليس بقيد له ؛ ولذا كان يرى من جميع الجهات ، وهو في الصلاة ؛ للمجازاة
__________________
ـ الضدين ، وتصدق رسولك صلىاللهعليهوسلم فيما أخبرك به مما أحاله عقلك ؛ لأنك لا تتعقل شيئا قطّ من ذلك ، وميزان العقل موجود معك ، ولو لا أن حضرة الخيال تقبل المحال ما قدر العقلاء على فرض المحال ؛ لأن العاقل لو لا صوّره في نفسه ما قدر على فرضه ، وإنما صحّ لنا رؤية الحق تعالى في المنام مع حديث : «إنّكم لن تروا ربّكم حتّى تموتوا».
لأن النوم أخو الموت ، فلما كان الموت يطلق على النوم بضرب من التشبيه قلنا بصحة رؤية الحق تعالى فيه ، وكذلك لما تجلى الحق تعالى للجبل خرّ موسى صعقا ، وصار الجبل دكّا ، فما أطاق موسى الكلام حتى صعق ، وتحلل التركيب منه.
وكان الدكّ للجبل بمنزلة الموت له ، حتى أطاق سماع الخطاب ؛ إذ السماع (٢) لمن لا مثل له كالرؤية لمن لا مثل له سواء. فهذا هو السبب المجوّز لرؤية الحق تعالى في الحياة الدنيا في المنام.
وكان أبو يزيد رضي الله عنه يقول : الحقيقة تأبى أن يكلم الحق تعالى غير نفسه ، أو يسمعه غير نفسه ؛ فإنه تعالى إذا أراد أن يكلّم عبدا لا بدّ أن يحبّه ، وإذا أحبّه كان سمعه وجميع قواه ، فما سمعه تعالى حقيقة إلا هو. ومن المحال أن يطيق حادث سماع كلام القدير أو يتعقّله ، ولم يكن الحق تعالى لسانه عند النحوي ، ولذلك كان صلىاللهعليهوسلم مع كماله يغيب عن نفسه وإحساسه عند الوحي.
واعلم أن حقيقة النوم أنه برزخ بين الموت والحياة ، فالنائم لا حيّ ولا ميت ، فله وجه للموت ووجه للحياة ، فهو أخو الموت من وجه واحد ، لا من الوجهين.
قال الله تعالى : (وَجَعَلْنا نَوْمَكُمْ سُباتاً)[النبأ : ٩] : يعني راحة لكم ، ولتألفوا حالكم في البرزخ بعد الموت ، فإن حالكم فيه كالنوم في الصورة.
قال شيخنا رضي الله عنه : ومحل النوم ما تحت الكواكب ، ومقعر فلك القمر خاصّة ، فالملك لا رؤيا له ؛ لأن نشأته غير عنصرية ، هذا حكم الدنيا ، وأما في الآخرة فمكان الرؤيا ما تحت مقعر فلك الكواكب الثابتة ، ولذلك كان أهل النار ينامون في بعض الأوقات ، نسأل الله العافية.
(١) رواه البخاري (٤ / ١٧٠٠) ، والحاكم في المستدرك (٢ / ٦٣٠).