__________________
ـ ويقول فيها أحدهم : (ما عوّدني الله إلا كذا وكذا) ، وهذا العلم الذي نبّهتك عليه من العلم بالله ما أظهرته باختياري ، ولكن حكم الجبر حكم به عليّ ، فتحفّظ به ، ولا تغفل عنه ؛ فإنه يعلّمك الأدب مع الله تعالى.
وإذا فهمت هذا علمت أن الحق تعالى إنما هو معك بحسب ما أنت عليه وما أنت معه.
قال تعالى : (وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ)[الحديد : ٤].
ولم يقل قط : (وأنتم معه) ؛ إذ لا يصحّ أن يكون أحد مع الله ، فالله مع كل أحد بما هو عليه ذلك الواحد ، ولا يصحّ التجريد عن التدبير أبدا ؛ لأنه لو صحّ لبطلت الربوبية ، وهي لا تبطل ؛ فالتجريد محال ، فلا تعقل إلهك إلا مدبّرا فيك ، ولا تعرفه إلا من نفسك ، فنفسك عرفت ، والسّلام.
وقد قال أبو بكر الشبليّ رضي الله عنه : إني لا أشتهي رؤية الله تعالى. فقيل له : لم؟ فقال : أنزّهه عن رؤية مثلي.
فقال له بعض العارفين رضي الله عنه : نفس شهودك أنك أنت الناظر أقبح من عدم تنزيهك ، ويا ليت شعري! أيّ نظر لك من ذاتك حتى تنظر به ، وهل ينظره تعالى إلا هو!.
وذكر الشيخ الشعراني بعض الهواتف الربانية :
(جهلني عبادي فلم يعرفوني ، وكيف يدّعون معرفتي وأنا لا جسم ولا معنى؟! ولو عرفوني في الدنيا ما أنكروني حين أتجلى لهم في القيامة ، فهم لعلامتهم عابدون لا لي ، ولعين ما أنكروه مقرّون ، فمن قال منهم أنه عبدني فقد كذب) انتهى.
ولا يخفى أن ذلك في حق الضعفاء من المؤمنين ، أما العارفون فلا ينكرون الحق تعالى في تجلّ من تجلياته ؛ لاطلاعهم في دار الدنيا على المرآة الكبرى الجامعة لسائر الصور ، المتفرع منها كل معرفة في العالم ، فهم يوم القيامة واقفون لا يتكلّمون ، ولا يستعيذون منه كما استعاذ غيرهم ، حتى تنقضي جميع التجليات.
وقد علموا من الله تعالى أنه لا يريد منهم أن يعرّفوه لأحد من المنكرين في ذلك اليوم العظيم ؛ ليجنوا كلهم ثمرة اعتقادهم في دار الدنيا.
وأما قوله صلىاللهعليهوسلم : «إنّكم سترون ربّكم كما ترون القمر ليلة البدر».
وفي رواية : «كما ترون الشمس في الظهيرة ليس دونها سحاب».
اعلم أن النور الذي يتجلى الحق تعالى فيه في الآخرة إنما هو نور لا شعاع له ، فلا يتعدى ضوؤه نفسه ، ويدركه البصر في غاية التجلي والوضوح.
فمعنى قوله : «كما ترون القمر ليلة البدر» : يعني إذا كثف ليلة بدره ؛ لأن عند ذلك يدرك البصر المثال المشبّه بالقمر إدراكا محققا.