الأجلى ، فإنه الذي يجد لذّة النظر إلى الوجه الكريم ، والله تعالى لا يوصف بالعشق ؛ لاعتدال صفاته ، وقد يوصف بأشدّية الحب التي هي في معنى العشق ؛ لكنها تحمل على التأكيد الذي ما له نهاية المحبة.
ثم الناس عاشق ، وعارف ، ومحقق ؛ فالعاشق : قد يكون أدنى حالا من العارف ؛ لأن العشق لا يعطي بذاته كمال المعرفة التي هي المقصودة بالذات ، والمحقق فوق العارف ؛ لأن العارف قد يكون غير واصل إلى ما وصل إليه المحقق ، فالمحقق أقوى في المعرفة من العارف الغير الواصل ؛ لأن المعرفة الحقيقية هي التي تحصل بعد التجلّي العيني إذ لا خيال فيها ، وإنما ترد من التجليّات العينية بخلاف التجلّي العلمي ، فإن أهله قد يخطئ وقد يصيب.
ولذا لا يجوز له أن ينصّب نفسه في مقام الإرشاد ، إذ الغائب لا يقدر أن يرشد الغائب إلى الحاضر ، وقد كثر أربابه في كل عصر من الأعصار ، وباب الدعوى مفتوح ، والداخل فيه مجروح.
لطيفة : وقد ظهر لي في بعض المشاهد أن الإمام أبا حنيفة من العارفين (١)
__________________
ـ فكانت عادة العرب إذا أراد أحدهم عقد المودة بينه وبين صاحبه يمد قوسه ، ويوصله بقوس صاحبه ، بأن يلصق مقبضه بمقبض الآخر ، فيلتصق قابا كل قوس بقابا الآخر ، ويكون ذلك عندهم دليل النفع والمحبة ، ولم يحصل هذا القرب لأحد إلا لنبينا صلىاللهعليهوسلم.
(١) ولد سنة ثمانين من الهجرة ، وتوفي ببغداد سنة خمسين ومائة وهو ابن سبعين سنة ، كان رضي الله عنه حسن الوجه ، حسن الثياب ، طيب الريح ، كثير الكرم ، حسن المواساة لأخوانه.
وكان يعرف بالريح الطيب إذا أقبل وإذا خرج من داره.
وكان يقول : ما صليت قط إلّا ودعوت لشيخي حمّادا ، وكل من تعلمت منه علما أو علمته.
وكان الإمام الشافعي رضي الله عنه يقول : الناس عيال على أبي حنيفة في الفقه ، وكان لا ينام الليل ، وسمّوه الوتد لكثرة صلاته ، وصلّى الصبح بوضوء العشاء أربعين سنة.
وكان عامة الليل يقرأ القرآن كله في ركعة واحدة ، وكان يسمع بكاؤه حتى يرحمه جيرانه ، وختم القرآن في الموضع الذي مات فيه سبعة آلاف مرة ، وكان نومه دائما في الصيف ساعة بين الظهر والعصر ، وفي الشتاء ساعة أول الليل ، وأخذ العلم عن شيخه حماد ، وهو عن إبراهيم النخعي ، وهو عن علقمة ، وهو عن ابن مسعود ، وهو عن رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، ولذلك قالوا : الفقه زرعه عبد الله بن