الشهداء لمّا بذلوا مهجهم ، وأفنوا ظواهرهم ؛ التحقوا بالفانين في الله مطلقا ؛ ولذا حفظ الله تعالى أجسادهم عن البلى ، والتفسّخ ؛ كأجساد الصديقين ، وإن كان بين أجسادهم لطافة ونضارة فرق بحسب سريان بركات النفوس إليها ، وصلاح الشهداء أقوى من صلاح مطلق الصالحين ؛ لكونهم مباشرين للجهاد الأصغر الذي هو خصوص مرتبة من مراتب الأعمال الفاضلة.
ومعنى المعية المفهومة من الآية : إنهم أهل الحضور والقرب ، وإن كانت درجاتهم متفاوتة في العلم والعمل.
فهم : أي المطيعون من هذه الأمة :
إمّا صديقون : فهم مع إخوانهم الصديقين في درجاتهم.
وإمّا شهداء : فهم مع إخوانهم الشهداء في طبقاتهم.
وإمّا صالحون : فهم مع إخوانهم الصالحين في منازلهم ، إلا أنه يغيب بعضهم عن بعض ، وإن تفاوت درجاتهم ، كما لا يغيب خواص السلطان بعضهم عن بعض ، وإن اختلفت مقاماتهم ، وتقاربت أو تباعدت دورهم وبيوتهم ؛ فإن بعضهم ينزلون منازل بعض بالزيارة متى أرادوا ، فإذا كان لا حجاب بين الأصدقاء في هذا الموطن الكشيف ؛ فما ظنك بهم ، وهم في الموطن اللطيف.
ولذا قال تعالى : (وَحَسُنَ أُولئِكَ رَفِيقاً) [النساء : ٦٩].
: أي جوارا جعلنا الله وإياكم من أهل حسن الجوار بحرمة نبيه المختار.
وفي قوله صلىاللهعليهوسلم : «من أحب قوما ؛ فهو منهم» (١).
اشارة إلى ما ذكرنا فإن المراد أنه منهم في الدنيا والآخرة.
امّا في الدنيا : فبالطاعة والأدب الشرعي.
وإمّا في الآخرة : فبالمعاناة والقرب المشهدي ، فإن المحبة رابطة قوية بين المحب والمحبوب ، وتلك الرابطة تقتضي الموافقة على كل حال.
فالإنسان لا يلحق الأبرار إلا بأعمالهم ، ولا يرتبط بالمقربين إلا بأحوالهم :
__________________
(١) رواه البخاري (٥ / ٢٢٨٣) ، ومسلم (٤ / ٢٠٣٤) بنحوه.