ـ من حقّ النظر أن لا يصحّ إلّا مع الشك في المدلول ، عند شيخينا ، رحمهماالله ؛ فأمّا ما إذا كان عالما بالمدلول ، فالنظر لا يصحّ منه. وذكر شيخنا أبو عبد الله ، رحمهالله ، أنّ النظر إنّما لا يصحّ مع العلم بالمدلول ؛ فأمّا أن تجب مجامعة الشكّ له في المدلول فلا ؛ بل قد يصحّ مع اعتقاد المدلول ، ومع الظنّ به. ويجب أن لا يصحّ أن يجامعه ما يقتضي العلم بالمدلول ، على قول الكل ، نحو أن ينظر ويعلم أنّه يولّد العلم بشيء مخصوص ، على وجه مخصوص.
فأمّا مجامعة العلم ، فإنّه يولّد أصلا له ، وأنّه يولّد العلم بالشيء ؛ وإن لم يعلم على أي وجه يولّد ، فغير ممتنع (ق ، غ ١٢ ، ١١ ، ١٤)
ـ إنّ في النظر ما يكون صحيحا ؛ وفيه ما لا يصحّ لأنّه لا يولّد العلم ، كالنظر في أمور الدنيا ، وفيما ليس بدليل ، وفيما لا يعلمه المستدلّ وإن كان دليلا لكنّه لا يكون فاسدا. وقد دلّ الدليل على أن لا نظر يوجب جهلا أو ظنّا. وقد صرّح بذلك في غير موضع ، فقال : إنّ النظر الصحيح لا بدّ من أن يولّد العلم (ق ، غ ١٢ ، ٦٩ ، ٩)
ـ إنّ النظر يولّد العلم ، يدلّ على ذلك أنّ عند النظر في الدليل يحصل اعتقاد المدلول على طريقة واحدة ، إذا لم يكن هناك منع ، ويحصل هذا الاعتقاد عنده بحسبه ، لأنّه لا يحصل عنده اعتقاد غير المدلول. لأنّه إذا نظر في دليل حدوث الأجسام ، لم يحصل عنده اعتقاد النبوّات ؛ وإذا نظر في دليل إثبات الأعراض ، لم يحصل عنده العلم بإثبات المحدث. فإذا وجب وجوده عنده على طريقة واحدة ، فبحسبه من الوجه الذي بيّناه. ويجب أن يكون حاله في أنّه متولّد عنه ، كحال سائر المتولّدات. فلو لم تدلّ هذه الطريقة على ما ذكرناه ، لم تدلّ سائر الأدلّة على إثبات التوليد ، ولما دلّ وجوب وقوع التصرّف بحسب قصده ودواعيه على طريقة واحدة على أنّه فعله. وقد بيّنا صحّة ذلك في باب التوليد من هذا الكتاب (ق ، غ ١٢ ، ٧٧ ، ٢)
ـ إنّ النظر لا يقع من الطفل على الوجه الذي يولّد ، لأنّ من حقّه أن لا يولّد ، إلّا إذا كان الناظر عالما بالدلالة على الوجه الذي يدلّ. وذلك لا يتأتّى في الطفل ، فلذلك لم يولّد العلم (ق ، غ ١٢ ، ٧٨ ، ١٢)
ـ إنّ شيخنا أبا عبد الله قد ذكر أنّ النظر الذي يولّد العلم من حقّه أن لا يوجد إلّا ويولّد ، ومنع من وجوده بعينه إذا كان الناظر معتقدا للدلالة ؛ وحكم بأن ما يوجد منه مع الاعتقاد ، غير الذي يوجد منه مع العلم. فإذا كان كذلك ، لم يقدح في قولنا : إنّ النظر يولّد العلم. ولم يحتج على هذا الوجه أن يقال : إنّ من شرط توليده ، كون الناظر عالما بالدلالة ؛ بل يجب متى وجد هذا النظر أن يولّد العلم لا محالة. وهذا يبعد ، لأنّ ما يقدر عليه من النظر في الدلالة ، يجب أن يصحّ أن يفعله ، كان عالما بالدلالة أو معتقدا لها ، من حيث لا يصير للنظر بمفارقته للعلم أو للاعتقاد حالة مخصوصة ، فيحكم لأجله بتغاير ما يوجد عندهما ، ولا القدرة أو المحل أو الفاعل متغايرا ، فيتغاير النظر لأجله. فإذا صحّ كون النظر واحدا ، فلا بدّ من أن يرجع إلى ما قدّمناه (ق ، غ ١٢ ، ٨١ ، ٥)
ـ إذا حصل ، في النظر ، ما يمنع من كونه مولّدا ، لم يمتنع أن يقال : إنّ العلم يولّد ، وإن كان باقيا ؛ كما نقول في الحجر المعلّق بالسلسلة : إنّ عند قطعه يتولّد فيه الانحدار عند الاعتماد