ثم على مقتضى أصولهم فى الجملة ـ لا فى أخذ الزكاة ـ للفقر مراتب :
أوّلها الحاجة ثم الفقر ثم المسكنة ؛ فذو الحاجة من يرضى بدنياه وتسدّ الدنيا فقره ، والفقير من يكتفى بعقباه وتجبر الجنة فقره ، والمسكين من لا يرضى بغير مولاه ؛ لا إلى الدنيا يلتفت ، ولا بالآخرة يشتغل ، ولا بغير مولاه يكتفى ؛ قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم «اللهم أحينى مسكينا وأمتنى مسكينا ، واحشرنى فى زمرة المساكين» (١) وقال صلىاللهعليهوسلم «أعوذ بك من الفقر» لأن عليه بقية (٢) ؛ فهو ببقيته محجوب عن ربّه.
ويحسن أن يقال إن الفقر الذي استعاذ منه ألا يكون له منه شىء ، والمسكنة المطلوبة أن تكون له بلغة ليتفرّغ بوجود تلك البلغة إلى العبادة ؛ لأنه إذا لم تكن له بلغة شغله فقره عن أداء حقّه ، ولذلك استعاذ منه.
وقوم سمت همهم عن هذا الاعتبار ـ وهذا أولى بأصولهم ـ فالفقير الصادق عندهم من لاسماء تظله ولا أرض تقلّه ولا معلوم يشغله ، فهو عبد بالله لله ، يردّه إلى التمييز فى أوان العبودية ، وفى غير هذا الوقت فهو مصطلم عن شواهده ، واقف بربّه ، منشق عن جملته.
ويقال الفقير من كسرت فقاره ـ هذا فى العربية.
والفقير ـ عندهم (٣) ـ من سقط اختياره ، وتعطلت عنه دياره ، واندرست ـ لاستيلاء من اصطلمه ـ آثاره ، فكأنه لم تبق منه إلا أخباره ، وأنشدوا :
أمّا الرسوم فخبّرت أنهم رحلوا قريبا
ويقال المسكين هو الذي أسكنه حاله بباب مقصوده ، لا يبرح عن سدّته ، فهو معتكف بقلبه ، لا يغفل لحظة عن ربّه.
__________________
(١) الترمذي ، وابن ماجة عن أبى سعيد الخدري ، والحاكم وقال صحيح الإسناد ، ورواه الطبراني بسند رجاله ثقات عن عبادة بن الصامت.
(٢) التفت السهروردي إلى ذلك حين ميز بين الفقير والصوفي فقال إن الفقير يتطلع إلى الأعواض ، أما الصوفي فيترك الأشياء لا للأعواض الموعودة بل للأحوال الموجودة فإنه ابن وقته ، والفقير له إرادة فى اختيار فقره ، أما الصوفي فلا إرادة بنفسه ولكن فيما يوقفه الحق (عوارف المعارف ص ٤٢).
(٣) أي عند أرباب الأحوال.