فلهذا الوجود حقيقة تطلب الإنسان ، فإن رآها عرف ، ومن عرف نجا وسلم وإلا فإن غرق النفوس الجزئية حتمي في بحر النفس الكلية ، إذ ما جعل الله هذه النفوس إلا لتكون ميدانا لعرض قوى الأسماء والصفات والصور ، فمتى استوفت نفس أجلها ماتت وعادت إلى التراب الذي منه منشؤها ومعادها وبعثها في صفة جديدة.
٦٩ ، ٨٩ ـ (وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْراهِيمَ (٦٩) إِذْ قالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ ما تَعْبُدُونَ (٧٠) قالُوا نَعْبُدُ أَصْناماً فَنَظَلُّ لَها عاكِفِينَ (٧١) قالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ (٧٢) أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ (٧٣) قالُوا بَلْ وَجَدْنا آباءَنا كَذلِكَ يَفْعَلُونَ (٧٤) قالَ أَفَرَأَيْتُمْ ما كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ (٧٥) أَنْتُمْ وَآباؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ (٧٦) فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلاَّ رَبَّ الْعالَمِينَ (٧٧) الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ (٧٨) وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ (٧٩) وَإِذا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ (٨٠) وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ (٨١) وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ (٨٢) رَبِّ هَبْ لِي حُكْماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحينَ (٨٣) وَاجْعَلْ لِي لِسانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ (٨٤) وَاجْعَلْنِي مِنْ وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ (٨٥) وَاغْفِرْ لِأَبِي إِنَّهُ كانَ مِنَ الضَّالِّينَ (٨٦) وَلا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ (٨٧) يَوْمَ لا يَنْفَعُ مالٌ وَلا بَنُونَ (٨٨) إِلاَّ مَنْ أَتَى اللهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ (٨٩))
[الشعراء : ٦٩ ، ٨٩]
سبق الحديث عن إبراهيم عليهالسلام وموقفه من عابدي أصنام الصور ، ولما كان القصد من تأويلنا هذا استخراج الثابت من المتغير ، والأصول من الفروع ، ووعظ الناس في كل زمان ومكان ، فإننا نظل نلح على أن عبادة أصنام الصور موجودة في كل زمان ومكان ، وحقيقة الأمر أخطر مما يبلغه الخيال فكل إنسان عابد صنم ما دام ينظر إلى نفسه أولا على أنها موجودة بذاتها أولا ، وأن لها الخيرة ثانيا ، ثم ينظر إلى الناس على أنهم مثله لهم نفوسهم وإرادتهم وخيارهم وأفعالهم ... فهو يحب من يحب ، ويخاف من يخاف ، ويعيش في دوامة من القلق والترقب والتفكر والشك وحساب الحسابات ، وهل حال غالبية الناس إلا كما نقول؟
وما فعله إبراهيم عليهالسلام نبي التوحيد أنه ثار على قومه لما هم فيه من شرك ، والناس في شرك خفي علموا هذا أم جهلوا ، وبعد طول التفكير والتأمل أشرق نور البصيرة في قلب إبراهيم فكشفت له الآفاق وفتح له سر الوجود فإذا كل شيء عدو لإبراهيم .. نفسه وحواسه ظاهرة وباطنة ، وبخاصة الباطنة ومنها الخيال الذي يصور للإنسان ما تشتهيه نفسه ويخوفه ويجبنه ويثير فيه الغضب والشهوات ، والصديق الوحيد في هذه الدنيا هو رب العالمين الخالق أولا الإنسان من عدم أو من المادة الأولى ، ثم الهادي الذي يكتب في القلب كلمات الهدى ، فإذا الإنسان قد هدي بعد الضلالة وأنقذ من شر النفس وقواها من الغضب والشهوة ، والذي هو رب كل شيء ، والرب المحرك ومسبب الأسباب ، فهو الذي يطعم الإنسان بتيسير الرزق له ،