في دور الذاكرة التي هي حسية أيضا لها مركز في الدماغ ، ولها ولادة ونمو وقوة وضعف وصحة ومرض وموت ، وقد اكتشفت العلماء مركز الذاكرة في الدماغ ، وعالجوا أمراضها كفقدان الذاكرة ، لكن العلماء لم تعرف كيف تطبع الذاكرة الصور في شريط الخلايا العصبية ، ولا كيف تبقى الخلايا محتفظة بهذه الذكريات الصورية علما أنه يموت الألوف من الخلايا العصبية كل يوم ، كما أن العلماء لم يعرفوا كيف تنبه الذاكرة ، ولا كيف يستحضر الإنسان ذكرياته ، وظلت هذه العلمية سرا من الأسرار الخارجة عن نطاق البحث والفحص العلمي ، ومع أن الإنسان يستخدم ذاكرته كل يوم ، بل كل ساعة ، إلا أنه يبقى جاهلا حقيقة هذه السماء ، وعمقها ومداها وحقيقتها ودورها العظيم في حياته.
ومن السموات سماء الفكر ، والإنسان الذي هو حيوان ناطق أجهل المخلوقات بنطقه نفسه ، فهو لا يعرف كيف يفكر ، ولا كيف تمارس القوة الناطقة إمكاناتها ، وديكارت القائل أنا أفكر إذن أنا موجود ، ما كان عالما بمدى خطورة المسألة التي طرحها ونبه عليها ، فالفكر آية الله في الإنسان ، وهو المعجزة الإلهية على الحقيقة ، وكل المحاولات التي بذلت من أجل كشف النقاب عن عملية التفكير ذاتها ، وربط هذه العملية بالدماغ ، وفيزيولوجية الدماغ ، لم تسفر عن نتيجة مرضية مقنعة ، وسبق أن أوردنا نقد الماديين الديالكتيكيين أنفسهم للماديين العاديين الذين قالوا إن التفكير حاصل نشاط ذرات الخلايا العصبية ، وإن تصادم هذه الذرات بببعضها بعضا ينتج التفكير.
وقول الصوفية إن الإنسان جسر ومعبر ، وقولنا إنه بوق وجهاز لا سلكي إلهي ، هذه الأقوال تبين عظم الأمانة التي يحملها الإنسان ولا يعلم فقولك أنا أفكر ، يعني أنك مخلوق إلهي شرفت وفضلت بهذه الهبة الإلهية الكبرى ، صحيح أن التفكير في بعض الأحيان مضن ، وصحيح أن فيه الجنة والنار ، والنعيم والشقاء ، وأنه هو الذي جعل الإنسان يتوجه يمينا ويتوجه شمالا ، إلا أن الإنسان يبقى المخلوق الوحيد الذي رفع إلى مرتبة الألوهية والربوبية بفضل فكره ، وصحيح أننا انتقدنا الفكر ودوره ، ونبهنا على مسالكه الخطرة ومزالقه إلا أننا فعلنا هذا لنجعل الإنسان يكسر قضبان سجن الفكر نفسه ، ويطير من ثم إلى أفق الفكر الكلي والعقل الكلي ، ويكتشف ماهية الفكر وهويته فيحتل بالفعل مرتبة الخلافة الإلهية ، ويصبح إنسانا متألها يستشف الغيب ويعرف ما وراء الأحداث ومن هو محرك الأحداث ، ويكون حفيظا في الأرض مكينا أمينا كما كان يوسف.
والحدس ، وهو ضرب من ضروب التفكير ، فهو معرفة الحقيقة معرفة مباشرة من غير إعمال الفكر بأساليبه في الاستدلال والاستنتاج والخلاص من المحسوس إلى المعقول ، وقد