وقيل إن الجسد كله وما فيه من قوى وأجهزة يعمل بأمر الدماغ ، وإن الدماغ هو الذي ينظم دقات القلب حتى تعمل كالساعة ، وهو الذي يحدد نشاط الكبد والكليتين وضغط الدم ، وبالإضافة إلى أن فيه مراكز الحواس ظاهرة وباطنة ، فالدماغ آية الله في خلقه.
وحاولت المادية أن تجعل الدماغ نفسه سبب التفكير ، فردت على أعقابها ، حتى أن المادية الحديثة الديالكتيكية سفهت هذا التفسير ، وكل الدراسات التي حاولت أن تشرح سر عمل الدماغ لم تؤد إلى نتيجة مرضية والسبب أن الدماغ نفسه هو سر إلهي كما قلنا.
والصوفية يقولون إن الروح ينصب على الدماغ فيجعله يعمل ، وضربنا مثلا لهذا المصباح الكهربائي الذي لا يضيء إلا عند وصله بالتيار الكهربائي ، وهو من دون الكهرباء ميت ، وهو بالكهرباء حي ، وبالكهرباء فقط يكون المصباح مصباحا ، فالدماغ مكان وآلة للاستواء الإلهي على عرش هذا المخلوق الإلهي الذي هو الإنسان ، ولذلك كان التفسير الصوفي وحده الجامع بين التفسير المادي والتفسير المثالي للدماغ ، فالآفة إن أصابت الدماغ تعطله عن التفكير ، فإذا زالت برئ الإنسان وعاد إلى صوابه ، وهكذا تجد الإنسان مخلوقا مادروحيا ، لا هو مادة صرفة ، ولا هو روحا صرفا ، بل هو كما قلنا جسر ومعبر وواسطة ظهور لا غير ، ولهذا تحدثت الصوفية عن الفناء والعدم ، وعن أن الإنسان لا هو موجود ولا هو معدوم ، وعن كونه ممكنا في ذاته واجبا بالله ، فلو لا الإنسان ما ظهر الله ، ولو لا الله لما كان الإنسان ، ولما كان إنسانا ، ولهذا قالت الصوفية إن الإنسان ميت حي ، ميت بذاته ، حي بالروح ، أو كما قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم في أبي بكر : (من أراد أن ينظر ميتا يمشي على الأرض فلينظر أبا بكر).
٢٣ ، ٢٤ ـ (هُوَ اللهُ الَّذِي لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحانَ اللهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ (٢٣) هُوَ اللهُ الْخالِقُ الْبارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى يُسَبِّحُ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٢٤))
[الحشر : ٢٣ ، ٢٤]
الآيتان تختمان سورة الحشر الحاشرة ، والحشر جمع الجمع في الله الذي كان وليس معه شيء ، وهو الآن على ما كان ، فأول الخلق التصوير ، والتصوير بدء فض المعادلات العلمية الكائنة في الذات الخالصة ، فالتصوير كتابة هذه المعادلات في لوح النفس التي هي شاشة عالم العيان الباطنة ، والمسماة في الكتاب الرق المنشور.
والتصوير إعطاء الأنا الجزئية صورة من صور المعقولات ، وهي عملية تحدثنا عنها بالتفصيل في كتابنا الإنسان الكبير مبينين كيف يتم الطبع في الخلايا العصبية ، وكيف سميت هذه الصور الأفكار القبلية عند كانط ، وصور الماهيات الأصلية والمقولات الهيغلية ، والمفاهيم الأزلية عند لا يبنتز ، والمثل الأفلاطونية ، والأسماء الحسنى في القرآن ، وهذا الطبع