لَهُمْ كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ ما يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلاَّ ساعَةً مِنْ نَهارٍ بَلاغٌ فَهَلْ يُهْلَكُ إِلاَّ الْقَوْمُ الْفاسِقُونَ (٣٥))
[الأحقاف : ٢٩ ، ٣٥]
يقال جنّه الليل أي ستره ، فالجن ما استتر ، وما استتر من الإنسان عقله وخواطره ، فالجن إشارة إلى الخواطر ، والإنسان أسير خواطره كما قلنا من قبل ، والخواطر نفسها متنازعة متضاربة ، لا تثبت على حال ، وهي تمر على ساح الفكر مر السحاب ، فالإنسان لعبة بين يدي خواطره ولا يعلم ، حتى إذا جاء البشير ، ونزل قرآن الإنسان في ليلة القدر وجد نفسه أمام جبار الخواطر شقيها وسعيدها ، الواحد القاهر في الأرض والسموات.
وما الخواطر حتى يكون لها وجود بذاتها ، إن الروح يسلط قواه على الدماغ فتصدر الخواطر ، ولهذا شبهنا الإنسان من قبل بالحاسوب يستعمله الروح نفسه ، ولهذا قاربت رؤى الصوفية النظرية المادية الحديثة نفسها القائلة إن العمليات الفيزيولوجية الجارية في المخ والفكر ، وإن التفكير العادي عملية واحدة وحيدة ، والوعي هو حالتها الداخلية ، وعلى هذا لا يمكن إطلاقا الفصل بين الوعي والمادة المفكرة ، وفي الوقت نفسه لا ينبغي النظر إلى الفكرة ، إلى الوعي على أنه مادة ، أو شيء ما مادي ، وهذا خطأ الماديين العاميين ، والفارق بين موقف الصوفية وموقف المادية الديالكتية من الفكر كالفارق بين هيغل وماركس ، فهيغل جعل الأمر منوطا بالروح ونشاطه وفعاليته ، وماركس جعل الأمر منوطا بنشاط المادة نفسها وقد أقر بأنها موجودة بذاتها لا بغيرها ، وأن لا وجود للروح.
والمهم القول إن الإنسان يكتشف وجود الروح الكلي في حين يأذن الله بذلك ، وهذا ما يقع بخاصة في ليلة القدر حيث يعرف الإنسان فيها قدره ـ بسكون الدال ـ وقدره ـ بفتح الدال ، أما قدره فهو العدم لأنه مرتبط بخواطره أولا ، ولأن خواطره مرتبطة بالروح ثانيا مشعة عنه رهينة بنشاطه.
والملاحظ في الآيات أن الجن قالت إنهم سمعوا كتابا أنزل من بعد موسى مصدقا لما بين يديه ، أي أن الجن ربطت ما بين القرآن وموسى ، وموسى في الصوفية إشارة إلى مقام كشف الفعل ، وهو أول درجات الكشف الصوفية ، فما يقع للمكاشف هو أنه يجد نفسه في المكاشفة عبدا لخواطره ، ثم تجد خواطره نفسها عبدا للروح يفعل بها ما يشاء ، وهذا ما أشير إليه في ختام الآية الثلاثين بأنه الصراط المستقيم.
والدعوة إلى إجابة داعي الله والإيمان به دعوة إلى توحيد الفعل القاضي بنسف الإنسان ظاهرا ، أولا ، ثم نسف خواطره باطنا ثانيا ، فإن من له الأمر والفعل أحق بأن يسترد من الإنسان عاريته وصفاته ، وهذه هي الأمانة التي حملها الإنسان ، فإذا فعل غفر الله ذنبه ، وذنبه