عليهم ، وجوهر الحوار أن موسى يدعو إلى فرز الفريقين ، وإلا لما كان ثم حكمة في خلق العالم نفسه ، والقضية واضحة ظاهرة عند النظر إلى الناس أنفسهم ، فلولا فرز المعقولات عن بعضها بعضا ، ولو لا إيمان الإنسان الفطري وحسه الحدسي بالمعقولات لما سلم جدلا بوجود الخير والجمال والعدل والحق والعلم ، ولما طالب بها ونشدها وبحث عنها ، لكن الظالمون كثير ، وهم لا يعترفون بوجود هذه المعقولات وربها ، وهم يطغون في ميزان العدالة ، ولا يقيمون وزن الحق بالقسط ، وهذا دأب الأشقياء في الأرض منذ دحاها الله.
لكن الله غالب على أمره ، وله الأمر من قبل ومن بعد ، فموسى طالب بقومه من المؤمنين ، لكن فرعون ممثل الأشقياء لم يؤته سؤله ، فكانت النتيجة أن الحق القاهر فوق فرعون قهره ، وفرز متشخصات المعقولات ، فظهر من الناس العالم والعارف والعابد والنبيل والكريم ، وظهر هؤلاء على الجاهلين السادرين في الغي والضلالة ، وتم تحقيق النصر لما التحق السعداء بعالم الأنوار ، في حين غرق الأشقياء في يم المادة التي علقوها ، وما بغوا عنها حولا.
والعالق قلبه بالعالم المحسوس مخذول ، ذلك أن الموت له بالمرصاد ، وكل نفس ذائقة الموت ... لكن شتان بين من يموت بالله لله فيبعث بالله ولله ويحيا الحياة الحقيقية ، وبين من يموت بنفسه الدنيوية التي هي من التراب وإليه.
٣٩ ـ (ما خَلَقْناهُما إِلاَّ بِالْحَقِّ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (٣٩))
[الدخان : ٣٩]
الحق المذكور حقان ، الحق الإلهي وهو العلم والخلق ، والحق الطبعي وهو صفة من صفات الحق الإلهي ، وبه يقام الوزن ويوضع الميزان ، ولو لا وجود المعادلات العلمية السابقة على الوجود العيني لما كان الوجود ولما استمر ودام ، فما رفعت قواعد من بيت إلا على أسس هندسية ، والبيت من غير هذه الأسس لا يقوم ، وإذا قام لا يلبث أن ينقض ، فالوجود موجود بالعلم وقائم به إلى يوم القيامة.
٥٩ ـ (إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ مِيقاتُهُمْ أَجْمَعِينَ (٤٠) يَوْمَ لا يُغْنِي مَوْلًى عَنْ مَوْلًى شَيْئاً وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ (٤١) إِلاَّ مَنْ رَحِمَ اللهُ إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (٤٢) إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ (٤٣) طَعامُ الْأَثِيمِ (٤٤) كَالْمُهْلِ يَغْلِي فِي الْبُطُونِ (٤٥) كَغَلْيِ الْحَمِيمِ (٤٦) خُذُوهُ فَاعْتِلُوهُ إِلى سَواءِ الْجَحِيمِ (٤٧) ثُمَّ صُبُّوا فَوْقَ رَأْسِهِ مِنْ عَذابِ الْحَمِيمِ (٤٨) ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ (٤٩) إِنَّ هذا ما كُنْتُمْ بِهِ تَمْتَرُونَ (٥٠) إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقامٍ أَمِينٍ (٥١) فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (٥٢) يَلْبَسُونَ مِنْ سُندُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَقابِلِينَ (٥٣) كَذلِكَ وَزَوَّجْناهُمْ بِحُورٍ عِينٍ (٥٤) يَدْعُونَ فِيها بِكُلِّ فاكِهَةٍ آمِنِينَ (٥٥) لا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلاَّ الْمَوْتَةَ الْأُولى وَوَقاهُمْ عَذابَ الْجَحِيمِ (٥٦) فَضْلاً مِنْ رَبِّكَ ذلِكَ