فصار موحدا ، فسليمان هو داود الموحد ، والله جعل للموحد خلوة مدتها أربعون يوما ، وأتبعها بليال وأيام لمراجعة نتائج كشف الخلوة ، والمجموع شهران ، شهر للغدو وشهر للرواح ، فالغدو ذهاب والرواح إياب ، فذهاب الفكر وعودته ، أو كما يقال في الصوفية الفناء والبقاء بعد الفناء ضرورة لإتمام مرحلة التعليم اللدني ، ومتى أتم المكاشف تعليمه سالت له عين القطر ، والقطر النحاس ، والنحاس معدن ثمين ، والإشارة إلى علوم التوحيد التي يخرج بها الموحد على الناس ، وكون القطر عينا يعني أن خاطر التوحيد دائم وسائل كما تسيل العين.
والجن الخواطر التي كانت مع الإنسان وضده أيضا ، فصارت بعد التوحيد طوع يديه ، فالموحد مليك فكره بعد أن كان الفكر مليكه ، كما ركب فلك خواطره بعد التوحيد فصارت مسخرة له كيف شاء وجهها فجاءته بالصيد الوفير ، وهذا هو ما أشار إليه إبن عربي في حديثه عن دور الخيال القدسي المنفصل في العارف ، فالعارف متصل بربه ، وما دام ربه عاد بعد الظهور إلى الاحتجاب بالصور ، كما قال البسطامي عن زيارة العارفين لله في سوق الجنة ، فالنتيجة أن صلة العارف بربه قد صارت محددة باستخدامه خواطره نفسها التي صارت بمثابة الجن ، والجن من الجنة أو الستر ، يعملون له ما يريد ، وما يعملون له إحضار الصور وإضافتها إلى بعضها بعضا وتركيبها بحيث يعبر من هذه الصور وإضافتها إلى المعاني التي تشير إليها فيكون كوارد السيارة الذي يريد الماء ، ويدلي دلوه ، فيستخرج ماء العلوم. ويسقي القافلة العطشى ، وتجد الإحياء للإمام الغزالي عينا جارية بهذه العلوم العجيبة حتى عد المستشرق كالادروا الإحياء الكتاب الثاني بعد القرآن في تاريخ الإسلام.
١٤ ـ (فَلَمَّا قَضَيْنا عَلَيْهِ الْمَوْتَ ما دَلَّهُمْ عَلى مَوْتِهِ إِلاَّ دَابَّةُ الْأَرْضِ تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَنْ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ ما لَبِثُوا فِي الْعَذابِ الْمُهِينِ (١٤))
[سبأ : ١٤]
الإشارة إلى مقام الفناء الذي يعيشه العارفون ، وهو الموت المعنوي العلمي الذي يدرك العارف حيث يتبين أن جسده ليس له بل لله ، وأنه يعمل بقوى إلهية ، وأنه ليس إلا ضيفا عليه حل فيه ، وهذه خلاصة كتابي الإنسان الكامل وكتابي الإنسان الكبير ، ويعيش الإنسان عادة الانفعال بين جسمه ونفسه دون أن يعي ، فهو يستخدم ذاكرته مثلا التي قد تلبيه أو تخونه ، وقال الغزالي في النشاط الجنسي في سن الكهولة والكبر : بقاء الرغبة مع فتور القوى ، وكم من المسنين يحاولون إبقاء هذه الغريزة نشطة فتخونهم السنون ، فالإنسان في كل ساعة ولحظة يستخدم جسمه وقواه وآلاته وإمكاناته استخداما ، وجسمه ليس هو ، وهو له مطية ، وهو مطية إلهية ممنوحة للنفس الجزئية لتمثل دورها ، وهذا ما عبرت عنه الآية بموت جسم سليمان الذي ظل قائما متوكئا على عصاه ، والعصا إشارة إلى القدرة الإلهية ، فلما خر بعد أن فتّ الزمان