قانون السببية الطبيعي يجعل الإيمان بالبعث أمرا مستحيلا ما دام لكل حادث سبب ، وما دام الإنسان الميت صار رمادا ، أو كما وصف في الآية بأنه قد مزق ، فكيف يعاد بعثه من جديد؟ والأشعري إمام الأشاعرة هو أول من كشف النقاب عن حقيقة قانون السببية حيث قال إن النار ليست سبب الإحراق ، والشراب ليس سبب الري ، والطعام ليس سبب الشبع بل إن هذه كلها وسائل لحدوث الفعل ، والفاعل الحقيقي هو الله ، وما دام الفاعل روحاني محيط ، له الأمر من قبل ومن بعد ، فهو قادر على إحداث الحوادث وعلى إبطالها وعلى الإتيان بنقيضها أيضا ، وما معجزات الأنبياء وكرامات الأولياء إلا دليل على القدرة الإلهية التي تحيل العصا حية تسعى وتجعل النار بردا وسلاما على إبراهيم.
والآية التاسعة تشير إلى هذه القدرة الفاعلة في الوجود والمتحكمة فيه وفي قوانينه وأسبابه ، والقادرة في الوقت نفسه على إحداث النقيض.
١٠ ، ١١ ـ (وَلَقَدْ آتَيْنا داوُدَ مِنَّا فَضْلاً يا جِبالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ (١٠) أَنِ اعْمَلْ سابِغاتٍ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ وَاعْمَلُوا صالِحاً إِنِّي بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (١١))
[سبأ : ١٠ ، ١١]
داود إشارة إلى مقام كشف الفعل ، وهو مقام موسوي ، والجبال بمثابة المعقولات وقد صارت طوع يديه ، والطير جواهر هذه المعقولات وتسمى أيضا الأرواح ، والحديد هو الفكر الذي كان حديدا صلبا ، أو كما يقال في المنطق الأرسطي القياس المنطقي ، ولا مجال لكسر هذا القياس أو الخروج عليه .. ومع هذا فالله ألان لداود الحديد ، أي كسر حديد فكره وقوانينه لما جمع له الأضداد والنقائض ، فنجا داود من نار التناقض وخرج من قفص الحديد الذي يكون الإنسان فيه ، وقضبانه الأضداد.
والسابغات الدروع ، وكان داود سرادا ينسج الدروع كما علمه ربه ، والإشارة إلى أن داود أجاد التحكم في القوانين الفكرية نفسها حيث احتمى من الفكر التناقضي بفكر توحيدي جديد يجعل الإنسان في سلام مع نفسه ومع العالم ، أو كما يقال : ينام الحمل في أحضان الذئب.
١٢ ، ١٣ ـ (وَلِسُلَيْمانَ الرِّيحَ غُدُوُّها شَهْرٌ وَرَواحُها شَهْرٌ وَأَسَلْنا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ وَمِنَ الْجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَمَنْ يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنا نُذِقْهُ مِنْ عَذابِ السَّعِيرِ (١٢) يَعْمَلُونَ لَهُ ما يَشاءُ مِنْ مَحارِيبَ وَتَماثِيلَ وَجِفانٍ كَالْجَوابِ وَقُدُورٍ راسِياتٍ اعْمَلُوا آلَ داوُدَ شُكْراً وَقَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ الشَّكُورُ (١٣))
[سبأ : ١٢ ، ١٣]
الريح إشارة إلى الأفكار ذاتها وقد جمعها التوحيد أو الواحد ، ولهذا كان سليمان ابن داود عليهماالسلام ، فسليمان بمثابة ولادة جديدة لداود الذي كان مصابا بالتناقض والازدواجية في التفكير