ثم نظر في الأزقّة فإذا في كلّ زقاق شجر مثمر ، وتحت الأشجار أنهار مطّردة ماؤها في مجاري من فضّة. فقال الرجل : هذه هي الجنّة التي وصفها الله تعالى في كتابه ، فحمل معه من لؤلؤها ومسكها وزعفرانها ، ورجع إلى اليمن وأعلم الناس بأمره.
فبلغ معاوية فأحضره وسأل كعب الأحبار : هل في الدّنيا مدينة من ذهب وفضّة؟ قال : نعم ، قال : أخبرني من بناها؟ قال : بناها شدّاد بن عاد ، واسم المدينة إرم ذات العماد ، وهي التي لم يخلق مثلها في البلاد. قال معاوية : فحدّثني بحديثها.
قال : يا معاوية إنّ رجلا من عاد الأولى كان له إبنان : شدّاد وشديد ، كان قد قهر البلاد وأخذها عنوة ، وليس هو من قوم هود ، وإنما عاد هو من ذريّته ، فأقام شدّاد وشديد ما شاء الله أن يقيما ، ثم مات شديد وبقي شدّاد ، فملك وحده وتدانت له ملوك الأرض ، وكان ولعا بقراءة الكتب.
فلمّا مرّ فيها بذكر الجنّة ، دعته نفسه إلى بناء مثلها عتوّا على الله تعالى ، فأمر ببناء هذه المدينة المذكورة ، فأمّر على صنعتها مائة أمير ، مع كل أمير ألف من الأعوان ، وكتب إلى كلّ ملك في الدنيا أن يجمع له ما في بلاده من الجواهر ، وكانت تحت يده مائتان وستّون ملكا.
قال معاوية : كم أقام في مدّة بنائها؟ قال : أقاموا ثلاثمائة سنة في بنائها وعمارتها. قال : فكم كان عمر شدّاد؟ قال : سبعمائة سنة ، وإنما سمّاها الله ذات العماد ؛ لأجل الأعمدة التي تحتها من الزبرجد والياقوت.
قال كعب : فلما فرغوا من بنائها أعلموا شدّادا بذلك فقال لهم : انطلقوا واجعلوا فيها حصنا واجعلوا حوله ألف قصر ، عند كلّ قصر ألف علم حتى أجعل في كلّ قصر وزيرا من وزرائي. فرجعوا فعملوا تلك القصور والأعلام والحصون ، ثم أتوه فأخبروه بفراغ ذلك ، فأمر الوزراء أن يتهيّأوا بالنقلة إليها ، وأمر جنده ونساءه وخدمه أن يتجهّزوا ، فأقاموا في جهازهم عشر سنين.
ثم سار الملك بجيش لا يحصي عددهم إلّا الله ، فلما صار إليها ، ليسكنها وبلغ إلى أن صار بينه وبينها مسيرة يوم وليلة ، بعث الله عليهم جميعا هو وجنوده ووزراؤه